للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بعض الكلام في (مي)]

بمناسبة الأربعين

وُلدت (ميّ) ثم ماتت كما يولد النهر من قَطْر السماء، فتربيه الطبيعة الهادئة الفسيحة، ثم تبعثه برسالة الحياة إلى حوضه، فيشق بالجهد والصبر طريقة الموحش في صخور الجبل وقفار الأرض وأصول الغاب؛ ثم يُلقي على شاطئ الوادي ما حمل من فضل الله، فيحيا المَوات، وتتجمع الخيرات، وتنشأ الحضارات، وتتألف الملاحم، ويتكلم التاريخ؛ ثم يأخذ النهر مجراه بين

الحقول الناضرة والمدن العامرة شادياً بالمال والجمال والحب حتى يذهب في عباب البحر كما تذهب الروح الطيبة في قضاء اللانهاية!

لن تجد (لميّ) في حياتها وموتها أقرب من هذا التشبيه. فقد كانت من خلال ما غشى الشرق

من الهمود والظلام قبساً من الحياة من يمسَسْه وهيجه وساء انتعش ما همد منه، واستنار ما أظلم فيه

كانت (ميّ) في حياة القاهرة ظاهرة من الظواهر العجيبة! والعجب فيها أنها كانت كممدوح المتنبي واحدةً من ناس دنياها وليست منهم: كانت جنساً من الخلق الجميل تميز بخصائص الجنسين، فكان فيه أفضل ما في الرجل وخير ما في المرأة. فمن كان يسمعها خطيبة في محفل، أو يشهدها محدثة في منزل، كان يحسبها - وقد استدارت على رأسها الأنيق هالة من السحر والفتنة - (قليوبَ) إحدى بنات (جوبير) التسع، وإلهات الفنون التسعة، قد سرقت من أخواتها أسرار فنونهن ثم هبطت من فوق (البرناض) إلى ضفاف النيل تجدد في الناس آي المسيح تميت القنوط وتحي الأمل

ومن يستطيع أن يحسب (ميّ) غير هذا وهي فتاة قد نشأت في عهد كانت المرأة فيه شيئاً من المتاع، ترى ولا تعلم، وتسمع ولا تفهم؛ ثم تحذق هي الكتابة والشعر والفلسفة والتصوير والموسيقى، وتتقن العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية، وهي لم تولد في قصر، ولم تتخرج في جامعة؟!

أبصرتْ (ماري زيادة) الدنيا أول مرة في (الناصرة) بلد المسيح، ومن هنا استوحى أبواها

<<  <  ج:
ص:  >  >>