للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اسمها الأول على ما أظن؛ ثم أرسلت إلى منبت أسرتها في قضاء كسروان بلبنان، فثقفت طفولتها قليلاً في (عين طورة)؛ ثم هاجرة إلى مصر مع والديها، فتفتح صباها الغض على ماء النيل، وتفتق ذهنها الصافي على نسيم الوادي. وكان والداها إلياس يحترف الصحافة ويصدر (المحروسة)؛ فكان لها من عمل أبيها، ومن أصالة الملكة فيها، حافز سديد

التوجيه إلى الأدب. ولكن أدبها على الرغم من نشوئه وبلوغه ونبوغه في القاهرة لم يتأثر

بأدب مصر، وإنما تأثر في شكله وموضوعه بأدب لبنان. ذلك لأن الأدب اللبناني كان وحده في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر مظهر الحياة والجدَّة والتنوع في الأدب العربي الحديث. فبينما كان الأدب المصري يصدر عن الأزهر، والأدب العراقي يصدر عن النجف، والأدب السوري يجري على أسلوب هذين الأدبين، كان الأدب اللبناني يصدر عن

مدارس تتسم بسمة الدين، ولكنها تعترف بوجود الدنيا؛ فهي تعلم العلوم الحديثة، وتلقن اللغات الحية، وتعتمد في أدب القلب على الإنجيل، وفي أدب اللسان على القرآن؛ فبيضت الكتب الصفراء، ورتبت المعاجم المشوشة، ونشرت الكتب المقهورة، ولقحت الآداب الأوربية، وكان من أثر هذا اللقاح النقد والترجمة والصحافة والتمثيل والقصص؛ وكان من ثمر هذا اللقاح طلائع هذه النهضة من آل اليازجي والبستاني والشرتوني وزيدان وصروف وشميل والريحاني وجبران ومطران؛ وكان لابد لمارى العربية أن تجنى ثمر الثقافة مما غرس الفرنسيسكان والأمريكان والمارون، وأن تقبس نور العروبة من الضياء والهلال والمقطف، وأن تناجى عنادلنا الغَرِدة في رياض مصر وخمائل لبنان ومنارة الدنيا الجديدة، وأن يحملها الاعتداد بجنسها ولغتها على أن نقتصر من أسمها الأعجمي على طرفيه ليكون منها اسمها العربي (مي). وعلى هذا النهج بلغت مي غايتها من الأدب والعلم والفن، فاستفاض ذكرها على الألسنة، وعظمت مكانتها في الأفئدة؛ ووصلت بينها وبين كثير من أولى الفكر والجاه أسباب من الروح، فكان صالونها في أيام الثلاثاوات كصالون الولادة بنت المستكفي منتجع الصفوة من أقطاب السياسة وأعيان الأدب، يعكفون على أصدق مثال للأناقة واللباقة والذوق في فتاة بارعة الظرف، تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة!

<<  <  ج:
ص:  >  >>