وكما كانت بغداد مركز الصناعة، كانت كذلك مركز الأناقة في الزي. وفي كتب الأدب العربي كتب وفصول تبحث في آداب البلاط الملكي وأزياء أهله، نجد ذلك مثلا في كتاب اللطائف والمعارف للثعالبي، كما نجد خير نموذج له في كتاب الموشي لمؤلفه الوشاء، وهو يحتوي على قسم خاص بثياب المتأنقين والحلل التي يرتديها ذوو المناصب. ففي صفحة ١٢٤ (من الطبعة التي حررها برونوف) يقول: (واعلم أن ثياب ذوي الفضل، والشجاعة، وأهل العلم، تتألف من القمصان الرقيقة والقمصان الغليظة المصنوعة من أنواع فاخرة من الكتان الناعم الصافي الألوان كالديبقي والجنابي. . . ويعد من سوء الرأي ارتداء ثياب ذات ألوان قبيحة مصبوغة بالطيب والزعفران كالملحم الأصفر والديبقي المضرج بالعنبر، لأن ذلك لباس النساء ولباس الراقصات والخادمات). ويصف الوشاء كذلك ما ينبغي للنساء في آداب الثياب، ولعل أفضل ما يوضح لنا كيف أن بغداد كانت عاصمة عالمية في حياتها هو تلك القوائم التي يذكرها للمنسوجات، والتي تحتوي على قمصان دارا بجرد في بلاد فارس، ومطاف سوس، وجباب فرس، والمنسوجات الاسكندرانية والخراسانية، وعباءات عدن، والنسج الأرمني المشهور، والأحذية الزنجية، أو اليمنية أو الهندية الواردة من كامباى. وكثيراً ما كانت الثياب تطرز بأنواع شتى من الكتابة العربية. فدراعة هارون الرشيد مثلا كانت محلاة في أحد جانبيها بكلمة (حاج)، وفي الجانب الآخر بكلمة (غار). على أن هذه العبارات التي كانت تحلى بها الثياب كثيراً ما كانت أبياتاً من الشعر الناطق بالظرف والدعابة كالبيتين التاليين اللذين كانت تحلى بهما عصابتها إحدى الجواري على ما يرويه صاحب كتاب العقد الفريد:
تمت، وتم الحسن في وجهها، ... فكل شيء ما سواها محال:
للناس في الشهر هلال، ولي ... من وجهها في كل يوم هلال.