للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ليلة في مضارب النَّوَر

للأستاذ عبد الحليم عباس

في سهول حوران التي ليس للأفق في فسيحها حد، وقف الليل يصغي لهذه الفتاة النورية تعبر عن شجو شعب لفظته الحياة، فلفظها وفي صدره غصة، وفي قلبه جرح لا يلتئم.

غنت ورقصت كالطير الذبيح.

وكانت أغانيها صدى لهذه الغربة الطويلة.

من بدء الخليقة زمّوا رحيلاً، يفتشون لهم عن وطن، كادوا يبلغون حد الأفق، ولما يجدوا مبتغاهم، كل شبر فيها ممتلك، وراء الأفق. . . وراء الأفق، عل لكم به داراً.

والتمعت الكواكب، فكأنها قلوب تجف، أو عيون تذرف فاطَّلعت إليها، وكأنما ادّكرت أوطاناً مجهولة، وأحباباً خلفتهم عند مطلع الشمس، فاندفعت تغني ما أنقل معناه، وكان غناؤها في هذه النوبة بالغاً في أساه، مشجياً في تعابيره، يحمل في ثناياه ريح الكبد المحروق. قالت:

(إيه يا ليل الشجن، ليت جوانبك الفسيحة تطوى، وآفاقك المترامية تتضام على نفسها، فإذا هي في مدى النظر دار وأيكة، نجلس فيها مع الحبيب، لا يفزعنا النوى ولا تطوح بنا المقادير.

إيه يا ليل الشجى: ظننا الغربة يوماً وليلة، وما علمناها العمر كله، فمتى تكون الرجعة، ومتى نلتقي والأحبة.

إيه يا ليالي، خلفناهم شباباً فبعد عشرين عاماً كيف آضت لممهم السود المعطرة، وشفاهم الريانة بخمر الحياة؟ كيف أضحت وجناتهم الناعمة؟ هل جعدها النوى وغضنتها السنون؟ وقاماتهم المنتصبة كالغصن الرطيب، أظنها انحنت تحت ثقل العمر والشجون. . . ليتني صخرة صماء مشدودة إلى هاتيك الربوع التي أحببت فيها حبيباً لم يغدر ولكن غدرت بنا الحياة.

إيه فتاتي! أوصيك ألا تلقي السمع لكلمات الحب تند عن أفواه الشباب الجملية، ما برح مكتوب على شعبك النوري جوب الأرض، وذرع هذه الفلوات. فموت القلب بالخلو من الحب، أخفُّ من احتراقه في جحيم الذكريات.

أغمضي عينيك عن الهوى، عن النعمة الكبرى، فلو كنا أهلاً لها، لبرئنا على غير هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>