إلى هنا وكأنما طغت موجة الحزن في نفسها، وكأنما فتحت لها الأنشودة عالماً من الذكريات الشجية فجلست مجهودة لاغبة.
وكنا في مضاربهم أربعة، كلنا يفهم الحياة إلى غير الوجه الذي يفهمها عليه الآخر، فمنا من يطلب فيها اللذة، ومنا من لا يبالي بلذتها وألمها، ومنا من لا يرى فيها متسعاً للذة، ومنها من يجدف عليها في الصباح، ويهزأ بها عند المساء، وفي الليل يدب إلى لذائذها يعصرها حتى لا يدع فيها بقية؛ ونحن وإن اختلفنا فيها كثيراً نلتقي على شعور بعينه، وهو الحس بألم الغير، والرثاء لآلام الناس.
فكان من هذا أن هزنا شعور طيب، هو مواساة هؤلاء المناكيد فكففنا عن طلب الغناء. وساجلهم الحديث منا فتى لبق. قال وهو يوجه كلامه إلى هذه التي غنت وجلست هامدة، كأنما ذابت روحها مع أغانيها:
- ألك أخوة يا عزيزتي؟
- نعم، ثلاثة، واحد دفنته في الصين، وأخر واريته في طيبة، والثالث على قيد الحياة.
- كلنا سنموت، فكيف رأيت هذه الديار؟
- هي دياركم أنتم، أما دارنا، فهذا البيت الممزق، وظهر هذا البهيم.
قال وهو يحبُّ أن يمزج الجد بالدُّعابة ليخفف هذا الألم الطافح ويستل هذا الحزن المستعصي:
- ليست الأرض ملكاً لأحد، أما سمعت قول الأديب الأكبر، أهون عليّ أن أتصور الإنسان ملكاً للجبال، ولا أتصور الجبل ملكه. ملكه كيف؟ أيستطيع أن يحمله؟
- لا أفهم ما تعني.
- ستفهمين، أجمل ما على أديم الأرض هذه الزهور الناجمة تميس بقاماتها، وأجمل ما فيها هذا العطر يفوح، فهل يملك عطر الزهرة؟ هل تُحجب وجنة السماء عن أعين الرائين؟ أبهج ما في الحياة ملك الجميع، وما بقي فأقوات وفضلات يشترك الإنسان فيها مع أدنى المخلوقات.
- صحيحٌ هذا، ولكن هذه أشياء ليس لنا منها أدنى فائدة، أنأكل الكواكب؟ أم نقتات بهذا