فنبهناه إلى غلطته، والى أن هذه التي يخاطبها أضيق عقلاً وأسف إدراكاً من أن تفهم مجالي الفن الرفيع.
فلم ييأس، وعاد يفهمها، ويأتي باللفظ القريب إلى عقليتها، يقول: إنها لا تقيت، ولكن فيها شيئاً أثمن من القوت، وهل خلق الإنسان لملء بطنه فحسب. . . هل أحببت؟
فكأنها خجلت من هذا السؤال الثائر، فرمت برأسها إلى الأرض، فعاد يلح عليها بالإجابة.
- نعم، أحببت، والنَور شعب لا يخجل من المصارحة بمثل هذه الأحاديث.
- وهل في الحب لذة؟
- نعم يا أفندي.
- أيهما أكبر لذة، الحب أم القوت؟
- الحب يا أفندي. . .
- إذن في الدنيا أشياء كثيرة أثمن من القوت، أفهمتِ؟
- نعم.
- وهذه الأشياء يتساوى فيها الغني والفقير، والأمير والحقير، بل إن حظ الصعاليك ليربو في بعض الأحايين على حظوظ ذوي الجاه العريض والمنازل الرفيعة.
فصمتت، وكأنها تفكر وتزور حديثاً، وبعد حين قالت: والغربة، هل يستقيم معها نعيم؟ أنظر هانحن أولاء نقيم هنا بعضاً من أشهر الصيف، فإذا جاء الشتاء بقره، اضطررنا إلى النزوح كارهين، فنحن نقضي العمر كله رحيلاً، ولو شئت لقلت حنيناً، نحن إلى هذه المرابع، وغدا نحن إلى غيرها إذا أنسنا بها، وهكذا نقضي العمر بالذكريات الموجعة، والحنين الذي يُقطع نياط القلوب.
قال: اسمعي، ليس على ظهر هذا السهل - سهل حوران - الممتد شمالاً حتى أذيال الشام، المنفسح غرباً إلى سفوح هذه الجبال التي شاقها منظر سماء عجلون، فنهضت إليها بغابات الصنوبر، وملتف أشجار السنديان والبلوط، لتقبل وجنتها. . . وليتك ترينها في الصباح، والضباب يلفها في مثل غلائل العروس وهي تجاهد بنسيمها المنعش، ونداها العطر لترى