أبصرنا الشمس وهي تغيب في آخر السهل، ورأينا سواد الليل يمتد حيال الأفق الشرقي، ونحن لا نزال في أعالي الجبال المطلة على تبوك، والفضاء الأرحب الذي يحيط بها فتنازعنا الرأي واختلفنا: أنبيت مكاننا فنهبط تبوك مصبحين، أم نصبر على ما نجد من السغب واللغب، ولا نبالي الليل وظلمته، ونتّم طريقنا إليها، فننام فيها نوم الآمن. . . وطال الخلاف ولم يكن علينا أمير منا، مع أن ذلك من السنة، واليمن والبركة فيه. فقطعتْ سيارتنا كل قول حين أخذت طريقها هابطة، وتبعتها السيارات بلا جدال، وكان ضوء السيارات وهي فوق الجبل متوجهة إلى تبوك يبدو قوياً منظوراً، وكان أمير تبوك على علم بقدومنا، فبعث إلينا بسيارته تستقبلنا وتهدينا، فعرفناها بضوئها، فتبعناها حتى بلغت بنا السهل، ثم أوصلتنا البلد، وقد كاد ينتصف الليل. . .
وصلنا البلد على حال لم نكن نملك معها ملاحظة ولا نظراً، ولقد شغلنا ما نجد من الجوع والتعب عن أن نبصر المدينة، أو نرى مسالكها، وما عرفت إلا الدار التي أنزلونا فيها، وليست داراً كالتي عرفنا في القريات، ولكن بناء حضري واسع منظم، مبني على طراز فني مقبول، ذو ردهات وغرف وأبهاء، فأدخلونا بهواً فيه، مفروشاً بالبسط والوسائد و (الطراريح). استقبلنا فيه الأمير (السديري) وهو شاب مهذب، على غاية من اللطف والنبل والرقة ودقة الملاحظة، وقد علمت أنه من أنسباء جلالة الإمام (عبد العزيز) أعزه الله. فلما استقر بنا المقام ووجدنا بعض الراحة، أحببت أن أقوم فأجول في القصر، فلما خرجت من البهو عرض لي أحد العبيد وهم كثر في القصر، فقال لي: من هنا. فتبعته وأنا لا أدري إلى أين يسير بي، حتى انتهى إلى باب، فأشار إليه وتخلَّى عنه، فدخلت، فإذا أنا في حمَّام ما ظننت أني ألقى مثله في دمشق، له ظاهر وباطن، وفيه الماء البارد والحار والرشَّاش (الدوش) والمناشف معلقة والصابون مهيأ، فدهشت وفرحت فرحاً ما أفرح مثله لو أعطيت مائة دينار، مع أني لم أرها قط ولم تحتوها يدي إلى الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة. . . فعدت فاستخرجت من حقيبتي ثوباً نظيفاً، ولم أرض لثيابي التي كانت عليّ إلا بيت النار - أحرقتها وأبيك - ودخلت الحمام وأنا أنظر إلى الباب أخشى أن ينزل علي من يشاطرني