خلص لنا من مخض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة كما يتكون الماء القراح من الهدروجين والأوكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزئيه. ولا أقصر وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركُّب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب؛ إنما أمد الشّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهدروجين إلى الأوكسجين في الماء. وإذن لا يعد من الأساليب الفنية تلك المعاني الحكيمة التي تُعرض في معرض بشع من الركاكّة والغثاثة والتعقيد والخطأ ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة. قال ابن رشيق:(ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فان اختل المعنى كله وفسد، بقى اللفظ مواتاً لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأى العين إلا أنه لا يُنتفع به ولا يفيد فائدة. وكذلك إن اختل اللفظ وتلاشى لم يصحّ له معنى، لأنا لا نجد روحاً في غير جسم ألبتَّهَ)
على ذلك نستطيع أن نتحدث إليك اليوم عن صفات الأسلوب الذي عرَّفناه وآثرناه. وحاشاك أن تفهم مما قدمتُ أن في ذهني أسلوباً معيناً جعلته النموذج، وأن في بالي نموذجاً خاصاً جعلته المقياس؛ فأني ذكرت لك من قبل أن الأساليب تختلف باختلاف الذهن والثقافة والنوع والغرض والحال والشخص الذي يتحدث. فأسلوب القصة غير أسلوب الرواية، وأسلوب العتاب غير أسلوب الشكر، وأسلوب التأثير غير أسلوب الإقناع، وأسلوب العالم غير أسلوب العامل؛ وكل أسلوب بليغ في بابه، مقبول من أصحابه. ومن العسير عليَّ في هذه اللمحات أن أستوعب الصفات الخاصة بكل أسلوب لكل نوع؛ فإن موضع ذلك عند تفصيل القول في الأنواع الأدبية وقواعدها الثابتة وشروطها المميزة؛ ولكن لهذه الأنواع مهما تعددت واختلفت صفات مشتركة من جهة الأسلوب، كما أن لها ملكات مشتركة من جهة الذهن، هذه الصفات المشتركة هي التي تعنينا ونعنيها، وهي التي سنحاول بسط الكلام