تقرأ في كتب النقد والبلاغة فتجد من صفحه إلى صفحه سلاسل من الوصف الجزاف تتلاحق على الكلام البليغ فلا توضحه ولا تحدده. ذلك لأن أكثرها من الألفاظ التي أشاعها الكتاب في الناس من غير تقييد ولا تحديد فظلت معانيها مبهمة ودلالها شائعة. من ذلك قولهم: الجزالة والسهولة والعذوبة والرقة والدقة والخفة والقوة والسلاسة والرصانة والنصاعة والوضوح والصدق والحلاوة والرونق والمائية والطبيعية والسبك والحبك والشرف والسمو والجلال، إلى آخر هذه النعوت المتداخلة التي لا تعين حداً ولا تبين مزية
وأنت إذا تدبرت هذه الصفات على علاتها ثم عرفتها وصنفتها لا تجدها تخرج عن صفات ثلاث هي جملتها وجماعها: تلك الصفات الجامعي هي الأصالة والوجازة، والتلاؤم. ويقابلها في الفرنسية ' , , ' وسنفيض القول في كل صفة منها ما وسعنا البيان والجهد
يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة. وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق. وملاك الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس. ملاكها أن تكون أََصيلاً في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، ولكنه مضطرب الدلالة مختلط الألوان تفه المذاق لا تستقله روح ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر أما خصوصية اللفظ فدلالته التامة على المعنى المراد ووقوعه الموفق في الموقع المناسب. وآية مطابقته لمعناه ومبناه أنك لا تستطيع أن تُبدله ولا أن تَنقله. والخصوصية في اللفظ أصل الدقة في التعبير والوضوح في المعنى والصدق في الدلالة؛ لأن الكلمة إذا تمكنت في موضعها الأصيل دلت على المعنى كله؛ فإذا حُشرت فيه حشراً، أو قسرت عليه قسراً، دلت على بعض المعنى أو أبانت عن غيره
وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخَلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم؛ فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة،