أقبل صاحبي وجه النهار مرتاعاً حائل اللون، شاحب الوجه، حائر الطرف، طائر اللب، كأنما ألم به طائف من الجن فروعه ترويعاً، وأخرجه عن ذلك الطور الهادئ الرزين الذي كنت اعرفه منه إذا لقيته فتحدثت إليه، واستمعت لأحاديثه المطمئنة العذبة الخصبة.
أقبل مرتاعاً لا يكاد يبين إذا تحدث أو هم بالحديث، بل لا يكاد يستقر في مجلس، بل لا يكاد يمسك جسمه من رعدة كانت تلم به من حين إلى حين فتهزه هزاً عنيفاً، وتذكر بقول ذلك الشاعر القديم
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
وأشهد لقد أنفقت كثيراً من الجهد، واصطنعت فنوناً من الحيلة، لأرده إلى ما الفت فيه من دعة وأمن وهدوء، ولقد افتقدت في تلك الساعة بعض هؤلاء الشيوخ الذين يتلون العزائم والرقي، بعد أن أخفقت أو كدت اخفق فيما كنت أحاول من رده إلى الوقار والصواب. ولكن ظفرت آخر الأمر بما كنت أحاول، واستطعت أن أتحدث إلى صاحبي، وأن اسأله عن مصدر هذا الاضطراب العنيف الذي أصابه وما عرفته عرضة لاضطراب يصيب العقل أو يصيب الجسم. قال وهو ذاهل أو كالذاهل: إثم هذا على أبي العلاء أيها الصديق، فلولا إنني نظرت في كتاب من كتبه آخر الليل، لأذود به هذا الأرق الذي ألح عليَّ إلحاحاً لما أصابني ما ترى، بل لما أصابني ما لم تر من تلك الأهوال التي ألمت بي، واصطلحت عليَّ حتى نفرتني من داري وأزعجتني عن أهلي، ودفعتني إليك في هذه الساعة التي لم أتعود أن أسعى فيها إليك. وثق باني قد خرجت من داري معتزماً ألا أعود إليها، وقد أمرت أهلي أن يلتمسوا لنا داراً أخرى، وأزمعت الرحلة عن القاهرة أياماً، حتى إذا تم لهم ما أريد من التحول عن هذه الدار الموبوءة، عدت إليهم في دارنا الجديدة، لعلي أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه من الدعة وراحة البال. قلت ما أراك إلامريضاً تحمل مرضك على أبي العلاء وتكلفه من ذلك ما لم يقترف، وتكلف أهلك من آثار هذا المرض شططا. ومع أني لم أعرف بعد هذه الأهوال التي ألمت بك فأزعجتك عن دارك ودفعتك إلى ما تحاول من فراق القاهرة. فلست أرى بأساً بهذا الرحيل فقد طال مقامك في مدينتنا، وقد احتملت من الجهد