لم تكن بلاد الشام يوم هاجمتها جحافل الغرب في أواخر القرن الخامس بمستطيعة أن ترد هذه الجيوش المتدفقة عليها من كل صوب، فلم تكن وحدة تحت سلطان واحد، وإنما كان النظام الإقطاعي يمزق شملها، ويفتت قواها. فسقطت فلسطين وكثير من بلاد الشام في أيدي الغزاة المتعقبين، وقاست البلاد المفتوحة من ويلات التدمير والنهب وسفك الدماء، ما لا يستطيع التاريخ أن ينساه، وكان نصيب بيت المقدس عندما إجتاحوه سنة اثنتين وتسعين واربعمائة من أكبر الأنصباء؛ فقد جرت به مذبحة من ابشع المذابح التي عرفها التاريخ. يقول ميشو المؤرخ الفرنسي في كتابه تاريخ الحروب الصليبية (ج١ ص٢٣٦) في حديثه عن بيت المقدس: (سرعان ما صارت المذبحة عامة: ذبح المسلمون في الطرقات وفي المنازل، ولم يعد في بيت المقدس ملجأ للمغلوبين؛ فبعض الذين فروا من الموت القوا بأنفسهم من فوق الأسوار، والآخرون جروا جماعات يختبئون في القصور والأبراج، وبخاصة المساجد، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفروا من أن يتبعهم الصليبيون، أما وقد صار الصليبيون سادة المسجد الأقصى الذي دافع المسلمون عن أنفسهم حينا فيه؛ فقد جددوا فيه المناظر المحزنة، دخله المشاة والفرسان، واختلطوا بالمنهزمين، وفي وسط أشنع ضوضاء؛ كنت لا تسمع إلا الأنين وصيحات الموت، لقد كان المنتصرون يسيرون على أكوام من الجثث ليتبعوا من يحاول الفرار عبثا. وقال شاهد عيان هو (ريمون داجيل) ارتفعت الدماء إلى ركب الخيل وأعنتها في المسجد، وكل الذين أبقى عليهم التعب من الذبح أو اسروا طمعا في أن يفدوا أنفسهم بفدية كبيرة قتلهم الصليبيون؛ لقد اكرهوا على أن يلقوا أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويكونوا طعاما للنيران، وكانوا يخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الميادين العامة، حيث يذبحونهم فوق أكداس الموتى، ولم يثنهم دموع النساء ولا صيحات الأطفال. لقد كانت المذبحة هائلة وكانت الجثث مكدسة، لا في القصور، ولا في المساجد، ولا في الشوارع فحسب، ولكن في أخفى الأماكن وأبعدها. ولم تنته المذبحة إلا بعد أسبوع. ويتفق المؤرخون الشرقيين والإفرنج على أن عدد القتلى يبلغ