ضلت الإنسانية عن ربها وعبدت المال والقوة، ودانت لهما بالطلب والحرص والإكبار؛ وفي سبيل المال والقوة نُسى كل شيء: من دين أو فضيلة أو مبدأ، وفعل كل شيء من:
ظلم وقطيعة وكث. يخدع كلُّ كلا في السلم كما يتخادع أهل الحرب، كأن أيام الناس في هذه المدينة حرب كلها ولكن بسلاح مختلف. فلحرب السلم سلاحها وفنونها وخططها، كما لحرب الدبابة والغواصة والطيارة. ففي السلم يتحارب الناس وتتحارب الأمم بالتجارة وحواجزها الجمركية، وبالصناعة وموادها الخام، ثم بالدعاية والسياسة؛ وفي سبيل ذلك يسخر الأدب بفنونه والعلم بفروعه، تتنافس في ذلك الأمم، وتتنافس في ذلك الطوائف والأفراد داخل كل أمة؛ حتى الفضائل جعلت سلاحاً وسبيلاً إلى الغلب. فالتاجر إن صدق لا لأن الكذب يزري، أو لأنه منهي عنه في الدين، ولكن لأن الصدق يجزئ ويربح، ولو وجد في الكذب ربحاً لكذب. والأمم تتعاهد، فإن وجدت في الوفاء ربحاً وفت، وإن وجدت الربح في النكث نكث. فالمال هو البغية، والقوة هي الغاية، والشهوة هي السائق، والهوى هو الغالب، كأن قد غلب على هذه المدينة في معاملاتها روح الإحراج وقانون الأدغال؛ وما يقول (دروين) إنه كان غالباً على أنواع الحيوان في أحقاب النشوء
ويل للإنسان من نفسه ومن أخيه الإنسان حين يضل كلُّ عن ربه. فلو لم يكن للدين ضرورة، لجعله حال الناس اليوم ضرورة؛ ولو لم يقم على وجوب التدين برهان، لكان ما آل إليه أمر الناس بعد ترك التدين هو البرهان. إلا أن الإنسان يذكر وينسى، ويؤمن ويكفر، ويطبع ويعصي، حسب الظروف في الشدة يلجأ إلى الله، وفي البلاء يكثر من الدعاء، ويستغفر ربه وينيب: يفعل ذلك الأفراد، ويفعل ذلك الأمم، حتى إذا استجاب الله وفرج الكرب وكشف البلاء، نسى الإنسان ونسيت الأمم ما كانوا يدعون الله من أجله، وجعلوا الله أنداداً، وانقلبوا له أضداداً، وعادوا إلى آلهتهم من الشهوة والقوة والمال، كأن لم يكن بلاء وكربة، كأن لم يكن دعاء وتوبة؛ وجعلوا يضحكون من خوفهم الذي كان، وجزموا بأن أسبابه لن تعود!
لقد كانت الحرب الماضية، وجاءت الناس بكرب لم يروا مثله من قبل، فجأر الناس إلى الله