أشرت في مقالي السابق إلى رأي (لونارد وولف) في كتابه (بعد الطوفان) وخلاصته أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات، أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فقد أصبح أبطال القصص (أفراداً) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد. وعلاقة الديمقراطية بهذا التغير الواضح أن المساواة قد خولت الفرد حرية الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان
أشرت إلى هذا الرأي وقلت إنني سأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في مقال آخر؛ وأظن أن تاريخ الآداب لا يفهم حق فهمه إلا بتجلية هذا الرأي وأمثاله والوقوف على مبلغ ما فيها من الحقيقة والتمييز بين الأدب القديم والأدب الحديث، لأن تاريخ الآداب إن هو إلا المعالم التي نميز بها عصراً من عصر وطريقة من طريقة وموضوعاً من موضوع، سواء أكان هذا الموضوع بطلاً موصوفاً في رواية أو قصيدة، أم كان عاطفة إنسانية يصورها الراوي والشاعر حسبما يراه
لقد كان اليونان يصورون الإنسان لأنه يستحق النظر إليه ويقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فكيف تجد من يصورك؟ وعلى هذا كان تصويرهم مقصوراً على الجميل والنبيل والرائع والمشهور، وهي الصورة التي تسترعي الأنظار وتشغل الخواطر وتفعم النفوس بالفتنة والإعجاب
كان ذلك شعارهم في عالم التصوير الفني، فهل تغير اليوم هذا الشعار؟
لا. لم يتغير، ولم يزل من دأب القاصين والشعراء والرسامين والمثالين والكتاب المسرحيين أن يصوروا ما يستحق النظر، وأن يقولوا كما كان اليونان الأقدمون يقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فيكف تجد من يصورك؟!
لم يتغير شعار الفن القديم، وإنما تغير الذين يستحقون النظر فأصبح الدميم والسقيم والوضيع والخامل مستحقين أن ينظر إليهم الناظر، وأن يبحث فيهم الباحث، وأن يتناولهم