للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لذة الشراء وآفة الملكية]

للأستاذ أحمد أمين

بالأمس ضحك مني بائع الكتب القديمة، إذ رآني أقلب في الكتب، وأذهب ذات اليمين وذات الشمال، وأقف على الكرسي وأنزل من عليه، والكتب بعضها بال عتيق قد غلف بالتراب وأكلته الأرضة، وكلها وضعت حيثما اتفق، لم يعن فيها بترتيب حسب الموضوع ولا حسب الحجم ولا حسب أي شيء، ولم يبذل أي جهد في تنظيفها وعرضها، فكتب في الأرض، وكتب في السماء، وكتب في الرف، وكتب على المقاعد، وكتب في الممشى، البائع رجل تقدمت به السن، زهد البيع وزهد الشراء، وإنما يبيع ويشتري لأنه اعتاد أن يبيع ويشتري، كل ما في أمره أنه فضل أن يجلس في الدكان على أن يجلس في البيت إذ يرى الرائحين والغادين، ويستقبل الزائرين، ومن حين إلى حين يبيع كتابا أو كتابين.

وسط هذه المكتبة المغمورة بالكتب، والمغمورة بالتراب، والمغمورة بالفوضى، انغمست ببذلتي البيضاء، القريبة العهد بالكواء، أبحث عن كتب نادرة أشتريها، وأتصفح كتبا أتعرف قيمتها، فضحك إذ رأى غراماً بالكتب يشبه الجنون، ورغبة في البحث والشراء تشبه الخبل.

لا تضحك - يا سيدي - فإنما هي لذة الشراء أصيب الناس بها جميعاً، وان اختلفوا في مقدار الإصابة، فقد تهور فيها قوم، واعتدل فيها آخرون، وهي ظاهرة في منتهى القوة والغرابة، تتجلى بأجلى مظاهرها في الهواة، فهذا هاوي سجاجيد يجن جنونه إذ يرى سجادة قديمة، صنعت في أصفهان القرن الخامس عشر أو السادس عشر، يحتقرها الرائي العادي، ولا يرضى أن يأخذها ولا بالمجان، ويشمئز أن يراها في بيته، فإذا الهاوي يجري ريقه ويتحلب فمه، كأنه جائع سغب أمام أكلة لذيذة، وقد لا يجد ثمنها فيستدينه، وقد ينقصه الضروري من وسائل العيش ومرافق الحياة فيعمى عنه، ولا يرى أمامه إلا السجادة وشراءها، ولتكن النتيجة بعد ما تكون، وسيتكفل الزمن بسداد الدين، وليحمل الزمن وحده عبء ما يحتاج إليه من ضرورات العيش، بل سواء حلها أم لم يحلها، فليس في الوجود ما يعدل هذه السجادة، فلأشترينها ثم لتنطبق السماء بعد على الأرض

وكذلك الشأن في هاوي طوابع البريد، وهاوي الكتب، وكل الهواة، نمت عندهم على مر

<<  <  ج:
ص:  >  >>