يعيش العالم الآن في عصر ثورة. فاعتقاده القديم وميله حتى نفوره في تغير وتبدل. ولم يشهد التاريخ تطوراً أصابه من التقلبات السريعة المفاجئة ما أصاب هذا التطور البادي في عقلية الجماعة والفرد. فالأخلاق تختلف، والآراء تتغاير، والاعتقادات تتباين. والجيل الجديد قد دفعته الرغبة الملحة إلى تجربة كل شيء في الحياة حتى نسي فن الحياة، فلا يملك الوقت للتفكير والتأمل، ولا يجد الفراغ للسرور الهادئ الذي يمتع به نفسه، ولا فرصة للقراءة يغذي بها روحه، وشدة الزمان وعنف الجهاد لا يسمحان لامرئ أن يفاكه شيئا لا رادة فيه ولا ثمرة، لذلك كان فن الشعرأبعد ما يكون عن الازدهار والانتشار. فالشعراء قليلون. وروائع الشعر نادرة، لأن طبيعة العصر تقتضي ذلك.
أنا لا أزعم إني أفهم ميول العصر، ولكني أسجل ما عليه الشعر العصري من حاضر سيئ وحال أليمة. ليكن السبب في ذلك متصلا بأي صورة من الصور بالحرب وأثرها في نفوس الشعوب التي صليت بنارها (وذلك ما لا أجرؤ على تأييده) فإن الأمر الواقع أن ازدهار الشعر في هذه الساعة من أصعب الأمور.
ومما لاشك فيه أن الناس لا يجدون لثقافة الشعر فراغا تركه السينما الناطق وموسيقى الجاز وذلك الحرص على أن يزدردوا في أربع وعشرين ساعة مقدارا من التجارب والاختراعات والاحساسات كان يغذي آباءنا الأولين شهوراً عدة.
على أن هذا الحال من الظواهر الطارئة التي لا تلبث أن تزول، فأن في الإنسان جزءاً جوهريا يقتضي الشعر ويتطلبه. أما وقت زوالها فذلك ما أجهله، ولكنه على أي حال لا يكون اليوم، لأن الناس أصبحوا غير أهل لتقدير العمل الفني، وإذا استطاع المسافر في قطار سريع أن يحسن التقدير لمنظر من المناظر، استطاع الرجل الذي يحيا هذه الحياة المحمومة أن يزن الحكم على قصيدة من القصائد. أن للحياة نسقا موزونا إذا أعجلته في حركته عرض الوجود كله للخطر. وقد نسى رجال اليوم ذلك فأصبحوا يركمون الإحساس فوق الإحساس دون استمتاع ولا تذوق، كالأكول الشره يبتلع اللقمة دون استمراء ولا مضغ ففاتهم بذلك خير ما في الحياة! تلك هي الحال الغالبة على كل شيء.