قلت في ختام مقالي السابق:(أما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا أطرق منها جانباً يخصني دون غيري، بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر. . .)
ولم أقصد بكتابة هذا المقال عن أمنيتي في الحياة إلا ما قصدته بكتابة مقالي السابق عن أدب اليوميات، وهو تسجيل ظاهرة نفسية أستطيع أن أراقبها في نفسي وأن أتخذ من تجربتي لها فائدة أضيفها إلى تجارب غيري. فليس أصدق في دراسة النفسيات من تسجيل تجارب النفوس.
وإذا صدقت تجربتي في هذا الباب فما من أمنية تسيطر على حياة الإنسان إلا ظهرت بذورها الأولى في بواكير صباه، فإنني لم أتمن في حياتي أمنية كبرى بعد الذي تمنيته بين العاشرة والخامسة عشرة، وكل ما أضافته السنون من جديد أنني كنت في الطولة أتمنى على سبيل الرمز والتلميح، وأنني استوضحت أماني بعد ذلك فبرزت لي على ضوء الوصف البين الصريح
بين العاشرة والخامسة عشرة تمنيت على التوالي أن أصبح ولياً من أولياء الله، وقائداً من كبار القادة، وأدبياً من رجال القلم النابهين. فعلمت مع الزمن أن هذه الأماني الثلاث إن هي إلا أمنية واحدة ضلت طريقها حتى اهتدت إليه، وجهلت عنوانها حتى اتسمت به والتزمت مسماه، وأن الولي والقائد إنما هما جانبان منطويان في الجانب الأكبر أو الجانب الوحيد الذي هو جانب الباحث والمفكر والأديب.
شاقني من الولاية وأنا في العاشرة تسخير قوى الطبيعة واستطلاع أسرار الدنيا والآخرة؛ فقرأت مناقب الصالحين وكتب السحر، وأردت أن أمشي على الماء، وأن أطير في الهواء، وأن أتلو القسم على شيء من الأشياء فإذا هو مذعن مطيع، وأن أدعوا الغيب إلي فإذا هو مجيب سميع؛ فصليت عشرات الركعات، وسردت ألوف الأسماء، وأوشكت أن أتمادى في (الدروشة) وأن أزهد في الدنيا وأنقطع للعبادة، وأنتظم بين من يسمونهم أهل الطريق. ثم