عصمني حادثان صبيانيان يضحكان، ولكنها بما أعقبا وأفادا بالغان في الجد والتسديد: أحدهما ضياع حذاء بالمسجد الكبير في يوم صلاة جامعة بين أولئك أهل الطريق! فقلت: إن أناساً يسرقون الأحذية في مساجد الله لا يرجى بينهم فلاح. والآخر إمام من أئمة (المندل) كذب على الحاضرين باسمي وأنا أنظر لهم في (الفنجان) لأستطلع الغيب؛ فقلت إن الذي يكذب في الحس المشهود، لن يدلني على الغيب المحجوب. وكان هذا وذاك فراق بيني وبين الولاية والكرامات.
أما قيادة الجيوش فكان لها سبب معقول في تلك الأيام. فقد كانت بلدتي (أسوان) قاعدة من القواعد الكبرى في طريق حملة السودان، وكان فيها مقر الجنود المصريين والسودانيين والإنجليز الذين ينتظرون السفر ذاهبين أو قافلين، وكنا نصبح ونمسي على خوف من الدروايش الذين يذبحون الرجال والنساء ويرفعون الأطفال مطعونين على أسنة الحراب. فكانت لعبتنا في المدرسة تمثيل هذه الجيوش واستعجال النقمة من الأعداء.
ثم لم ألبث أن ظهر لي أن قيادة الجيش ليست هي الأمل المقصود ولا الأمنية الفضلى؛ وأنني كنت من آل عطارد ولم أكن من آل المريخ؛ لأننا كنا ننظم الجيوش على أساليب القصص العنترية والهلالية وما ورد عن سيف بن ذي يزن وأبطال ألف ليلة وليلة: فارس يبرز بين الصفوف ليتحدى خصومه بأبيات من الشعر أو فقرات من الكلام المسجوع، وهذا هو بيت القصيد!
فلما نظمت الشعر عرفت ما أردت، ووصلت إلى ما قصدت، وتركت فتوح القيادة، كما تركت من قبلها كرامات الولاية! وانتهيت بعد طواف قصير في هذا التيه الصغير إلى أمنية الأدب والكتابة، ولكني لا أزال ألمح في باطن هذه الأمنية مسحة من غلبة القيادة، ونفحة من أسرار الولاية، وشوقاً إلى المجهول لم يقف قط عند حد من الحدود؛ ولم يفارقني قط حتى حين أحسبني مستغرقاً في الحس وفي غواياته وملاهيه
هذه عقدة من عقد النفوس التي التبست فيها أول الأمر ثكنة القائد وصومعة العابد وروضة الشاعر. ثم انجلت الرؤية من وراء الغشاوة الظاهرة شيئاً فشيئاً، حتى ظهر أن الثكنة والصومعة والروضة شيء واحد يفترق من بعيد ويتفق من قريب
لكن العجيب غاية العجب هو أن تحل هذه العقدة على البداهة السهلة وعلى أيدي طائفة من