للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفكاهة والطغيان]

للأستاذ عباس محمود العقاد

ملَكة الفكاهة نعمة من نعم الحياة، وخاصة من خواص الإنسان، وعلامة من علامات الارتقاء. ولكنها خليقة أن تعدَّ في النقم إذا هي سوغت ما لا يساغ وأباحت ما لا يباح، كالإذعان لحكم طغيان، والاجتراء على حقوق أو حرمات.

سمعت من سعد زغلول رحمه الله أن (أحمد زيور) في الوزارة أخطر من عبد الخالق ثروت ومَن على طرازه، لأن أحمد زيور لا يثير الغضب في المصريين بل يحفز فيهم ملكة الفكاهة ويقلب الأمر من جد إلى مزاح؛ وهم لا يكرهون ذلك، وقد يستمرئونه ويمضون فيه، فيقبلون على يديه ما لم يقبلوه على أيدي الآخرين، ويأتي الخطر من هذا الباب.

وذكرت هذا وأنا أقرأ الفكاهات التي يرويها الرحالون والناقدون الاجتماعيون عن الألمان والروس والطليان وسائر الأمم التي يحكمها أصحاب السلطان المطلق في هذه الأيام.

فينبغي أن نعلم أن هذه الأمم تصنع ما يصنعه المصريون أحياناً من مقابلة الطغيان بالفكاهة، ومن مجازاة السطوة بالنكتة، فيصول عليها الحاكم وهي تضحك منه، وتتفكه بالأحاديث عنه، وتظن أنها أخذت منه بمقدار ما أخذ منها، فتستريح إلى هذا القصاص!

قيل أن القائد جورنج يحب النكتة البارعة، ويطرب للفكاهة الجيدة، ويود لو يسمع ما يتداوله الناس من أقاويل السخر والمزاح عن الحكومة الحاضرة في البلاد الألمانية، ولكنه لا يصل إليها لخوف الناس من كتابتها أو الجهر بها، فاتفق وسائق سيارته على أن ينقلها إليه كلما سمع شيئاً منها، وله خمسة قروش على كل نكتة مقبولة.

قال الراوي: فطاب المورد للسائق المحروم وحرص على احتكار البضاعة كلها في هذه السوق. ثم جاء إلى القائد يوماً بحفنة صالحة من النوادر اللاذعة، فداخل القائد شيء من الغيظ وأشفق من ذيوع هذا الضرب الأليم من التنكيت، وقال كأنما يحدث نفسه: (ليضحكوا ما شاءوا. . . إنهم لا ينسون على كل حال أنهم أعطونا تسعة وتسعين في المائة من أصواتهم في الانتخابات الأخيرة. . .!)

فصاح به السائق وقد خاف على مورده المحتكر:

<<  <  ج:
ص:  >  >>