إذا تحامت الأقلام القديرة النقادة تراث الرافعي حتى اليوم، ولم تحاول عرض ما فيه من نفائس وعجائب على جمهرة المتأدبين في العالم العربي؛ ليكون لهم ينبوع إشعاع يلهم ألبابهم، ويستثير عقولهم، ويستحث خيالهم، ويحكم بيانهم؛ وإذا لم يتقدم بعد الناقد الضليع، والكاتب العبقري الذي ينفذ إلى نفسه العميقة وخياله المغرب، فيحلل أدبه، ويبوئه منزلته في سفر الخلود؛ فما أظن ذلك عن تهاون بهذه الذخيرة الفذة، ولكن هيبة ورهبة وفرط إعجاب
ومعذرة إلى الإمام الرافعي إذا تطاول يراعي إلى الخوض في أدبه، فلقد طال - علم الله - تردده وإحجامه، ووقف دهشاً يملكه البهر أمام هذا النور الفياض الذي هتك الخدور عن أبكار المعاني، وهذا الذهن الثاقب الذي نفذ إلى أسرار الحقائق فتخير أطيبها عنصراً، وأكرمها جوهراً، وأجملها رواء، ثم كساها البيان الساحر أكمل حلة، فغدت فتنة المتأمل ومحراب الأديب. وإنما حفز هذا اليراع - على ضعف منته، ووهن عدته - لتسطير هذه الكلمة ذكرى ارتحال الرافعي، عليه الرحمة والرضوان، إلى جنة الخلد. وهي نفثة إعجاب ووفاء، وإن ضن على الزمن بمعرفة شخصية إلا أني مدين لروحه الكبير بالشيء الكثير
وبعد، فما أخترت الكلام عن خيال الرافعي، لأنه أبرز ما فيه، وأجمل ما خلفه؛ ولكن لأن الرافعي نشأ شاعراً ملهماً مشبوب الخيال، ذا عبقرية فنية مبدعة، وهو وإن آثر النثر فيما بعد للإفصاح عما يختلج في نفسه من فكر ومعان، فقد لازمه خيال الشاعر في أكثر ما دبجه قلمه في الأدب الإنشائي؛ فكثير من مقالاته الوصفية قصائد نادرة في عالم الشعر والخيال؛ وهو مصور قدير دقيق الحس، يعرض لك المعنى البكر في أروع صورة وكأني به عنى نفسه إذ يقول:(أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا نكاد نلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالاً وصوراً في مثل خطرات البرق)
وخيال الأديب النابغة له مظاهر شتى يتمثل فيها: فإما أن يصور ما في الطبيعة، وينقل عنها ويحاكيها؛ وليس سر نبوغه في هذا النوع جودة المحاكاة وإتقان التصوير، ولكنه