يستشف من وراء ما يحاكيه أسراراً لا تخطر إلا له، ويختار مالا يقف عنده إلا عين شاعر، أو يحس جماله إلا ذوق فنان، ثم يعرضه للناس بعد أن ينفث فيه من شخصيته وموهبته، ويسبغ عليه من خياله وبيانه ما يجعله صورة جديدة نادرة المثال
وإما أن يكون مرآة مصقولة تنطبع فيها الصورة المختارة فتعكسها وتبرزها وحدها؛ ويكون سر نبوغه في حسن ذوقه واختياره، وفي صفاء نفسه وقدرتها على إظهار الصورة خالية من الشوائب واضحة مجلوة
وإما أن يخترع مالا وجود له في الخارج، ويخلق صوراً وأشكالاً هي وليدة عقله وصنع خياله، وبمقدار ما تكون مبتكرة جميلة أخاذة يكون تفوقه ونبوغه
وإما أن يوازن بين صور الطبيعة بعضها وبعض، وينظمها في سلك، ويأتي بالمفارقات التي تبهر العقول، ولا تتأتى إلا لصاحب الخيال الشرود، ومن تحسبه قد وضع الأشكال والمعاني بين يديه يؤلف منها ما يشاء، وينتقي منها كما يشتهي
وإما أن يوضح المعنويات بالمحسوسات، ويضرب الأمثال التي تقربها إلى الأذهان؛ وإما أن يتخيل في الجماد حياة فينطقه وينسب إليه - بالاستعارة والمجاز - وأفعال الأحياء، ويرتفع بالطبيعة إلى درجة الإنسانية، وكلما كانت استعاراته ومجازاته طبيعية محبوكة طريفة برهن على سر نبوغه
والرافعي رزق من سمو الخيال، وتوقد القريحة، وإرهاف الحس، وكمال الذوق، ما مكنه أن يبتكر في كل هذه الأنواع وأن ينمي الثروة الأدبية دون أن يجري في مضمار غيره من السابقين أو يسطو على معاني سواه. وإذا حاكى غيره فشخصيته وروحه تنفحان ما يأتي به سمة خاصة ترتفع به عن التقليد
ولقد عرف الرافعي الخيال الأدبي تعريفاً دقيقاً، وألزم نفسه في جل ما كتب أن تتمثله ولا تحيد عنها فيقول:(والخيال: هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية)
وإذا كان الخيال سامياً، والمعاني التي ينفذ إليها رائعة جديدة قيمة، كان لا بد من صيغة تناسب ذاك الخيال وهذه المعاني، ولا بد من عبارة طلية قوية تزيد المعنى روعة، والخيال