طوى الزمن من حياة الرسول بمكة بعد الرسالة ثلاثة عشر عاما كانت صراعا دائما بين الحق والباطل وبين الإسلام والوثنية وبين محمد يظاهره القرآن وقريش تؤيدها الفرسان.
ونزلت الآيات القرآنية الكريمة تخاطب من القوم عقولهم وتزجي الحجج، وتسوق الأدلة فيصمون آذانهم عن سماع الحق ويغلقون قلوبهم من دونه، ولما أعجزهم المنطق، وغلبهم لاذوا إلى أسلحة البطش والعدوان يحاربون بها محمدا ويضيقونه منها ألوانا مختلفة. ولا يكتفون بحربه وحده بل يصبون غضبهم على المستضعفين من الموالي المسلمين، ليردوهم عن الإسلام. ويصبر الرسول على أذى قومه، ويتجلد المسلمون في سبيل دينهم حتى يأذن الله للغمة أن تنقشع، وللإسلام أن ينتشر، ولرسوله أن ينجو من المؤامرة فيأذن له بالهجرة إلى يثرب.
وتفيأ المسلمون ظلال الأمن في يثرب فأمنوا من بعد خوف، واشتدوا من بعد ضعف، وكثروا من بعد قلة، وسكنوا من بعد اضطراب. وأخذ النور الإلهي يسري في القلوب فيجذبها اليه، ويستهوي النفوس فيدفعها نحوه، وأخذت دعائم الإسلام تتوطد وأركانه تستقر، وشوكته تقوى، والمسلمون يزيد عددهم كل يوم يصبحون آلافا مؤلفة يقودهم محمد فيدخلون مكة عام الفتح، ويطهرون كعبة الله من ربقة الوثنية، ويعلن الرسول في تواضع عفوه عمن سقوه الأذى، وجرعوه العذاب؛ ويثوب الضالون إلى الرشد ويدخل الناس في دين الله أفواجا وتنضوي قريش تحت راية الإسلام.
ما أشد حاجة كل حق في هذه الدنيا إلى قوة تثبت أركانه وترفع سلطانه إذا عارضه المعارضون وتأباه المكابرون!
لم يكن الإسلام قبل الهجرة باطلا فأصبح بعدها حقا، ولم يكن محمد كاذبا حين أنذر عشيرته برسالته في مكة فغدا صادقا في يثرب، وما عهدت قريش عليه كذبا ولا خيانة حتى فبل أن يصطفيه ربه لرسالته فهو الموسوم في طفولته بالصادق الأمين الذي حفظه الله من دنس الجاهلية، وطهره من أوزارها. ولكن الإسلام في مكة كان حقا ضعيفا لا يستند إلى قوة تحميه، ومحافل تدافع عنه فأصبح في المدينة مؤيدا بالأسنة والرماح. دشتان بين الحق