وجهة العالم في أن يدرك الأمور على ما هي عليه، ونشاطه في أن يكسب للمعرفة من ميدان الجهل، وأن ينشر النور حيث يخيم الظلام. ووجهة الخلقي في أن يصور الأمور على ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وأن يلفت الأنظار إلى مثل عليا تحفز بالناس للتسامي إليها والارتفاع بأنفسهم وبالحياة الراهنة إلى ما هو أرفع من أنفسهم وأرفع من الحياة الراهنة.
ولطالما اضطربت الإفهام واستغلق الأمر على الباحثين حيث تعرضوا لاستجلاء الصلة بين العلم وبين الأخلاق فحسبوا أن الوشائج بينهم مقطوعة حين نظروا إلى وجهتين مختلفتين: وجهة من يصف ويعلل، ووجهة من يرتضي مثالاً ويوجه إليه، وجهة من يهز صوته الفكر ويتردد صدى هذا الصوت بين جوانب الدماغ، ووجهة من تؤم نغماته تجاويف القلب وتسري في أقنية الدم، وعلى أسلاك العصب لتدفع بالنفس كلها إلى العمل.
ولطالما رأى غير قليل من المفكرين أن العلم النظري وثمراته التطبيقية لا تؤثر في الناس لتهذيبهم على نحو ما تؤثر العقائد الدينية والفلسفة والمثل العليا، حتى أن بعض قادة الفكر في الزمن الحديث أمثال (بسكال) و (ديكارت) اصطنعوا لأنفسهم ذلك الرأي فتخطوا العلم ليجدوا في الدين وفي العرف مرشدا لسلوكهم ومأمنا لأحكامهم وتقديرهم في اتخاذ الحسن من الأفعال وتجنب القبيح منها، وفي اتخاذ السبيل لراحة النفس واطمئنانها. بل قد ذهب غير قليل من مفكري عصرنا إلى إساءة الظن بالعلم فحملوه أوزار الحروب القاسية، وأخطار الفراغ الممل، وأضرار الثورات الاجتماعية العنيفة ومساوئ المطامع والتنازع الحاد، حتى وقد يبالغون في لوم العلم إلى حد أن يروا على نحو ما يرى (أيشتين) في أنه ذلك المسيء إلى الحريات الإنسانية، فمن ينظر إلى تلك المصانع وما فيها من آلات منوعة، وأعمال موزعة، يتبين أنها تتناصر جميعا على استعباد عدد من العمال وفير، وتسخيرهم تسخيراً آلياً تضمحل معه نفوسهم، وتهن من تأثيره كرامتهم، بل ربما يذهب الذاهبون في مذهبهم العدائي للعلم إلى حد أقسى مما تقدم، فلا يشفع له عندهم فضل