تفضلت (شركة مصر للملاحة البحرية) فدعتني إلى شهود احتفالها بسفر الباخرة (كوثر) من مرفأ الإسكندرية إلى السواحل الحجازية مقلة حجاج بيت الله الحرام. فقبلت الدعوة مبتهجاً مسروراً، وأجمعت أن ألبيها شاكراً ممتناً، وقلت في نفسي إن فاتني أن أحج بيت الله على متن هذه الباخرة ففاتني بذلك ثواب تلك الفريضة الكبرى، فلا أقل من أن أحج السفينة نفسها فأفوز برؤية الحلقة الثالثة من سلسلة ستكتمل حلقاتها بأذن الله، ويون لهذا البلد منها أسطول مبارك الغدوات ميمون الروحات
وحانت الساعة الرابعة من عصر يوم الخميس الماضي، فأخذت طريقي إلى المرفأ فيمن أخذ، وصعدت تلك الباخرة الجاثمة فوق متن الماء كالطود العظيم فيمن صعد، وقد صعدها خلق كثير من علية القوم وأوساطهم يعدون بالمئين. وجعلت أطوف أنحاء السفينة مع المطوفين، صاعداً وهابطاً، متنقلاً من طابق إلى طابق، ومن مقصورة إلى مقصورة، ومن مرفق إلى مرفق، وأشهد لقد تملكتني الحيرة من روعة ما شهدت، وفخامة ما رأيت. وأشكل على الأمر هنيهة من الزمن، فكأنني في حلم من تلك الاحلام اللذيذة التي يخشى معها الحالم أن تنفتح عيناه على الحقيقة المرة المؤلمة! أهذه سفينة مصرية حقاً؟ وهذا العلم الخفاق فوق حيزومها، أهو العلم المصري؟ وهذا الاسم العربي المرقوم عند جؤجؤها، أمكتوب هو بالحرف العربي؟ وهؤلاء الشبان الرائحون الغادون في طرابيشهم القانية وملابسهم البحرية الجميلة، يطلعون الزوار على ما دق من مرافق السفينة وما جل، أهم مصريون حقاً؟ وزاد بي اللبس فجعلت أتقرى الأشياء بيدي أتثبتها على نحو ما صنع البحتري عندما قلم في إيوان كسرى، وعراه ما عراني من الدهش والالتباس!
يغتلى فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
ولكن لم يطل أمد تلك الحال، فكل شيء حولي قد احتشد لنصرة اليقين على الشك في المعرة التي قامت بينهما في نفسي، وسرعان ما محا نور اليقين ظلمة الشك، وأطمأنت النفس إلى أني قائم في قطعة من مصر طافية على وجه الماء
الله أكبر! لقد أخذ الزمان يستدير، وشرعت مصر تسترد مكانة كانت لها في القديم ثم نحيت