زارني صديق، ففعلت ما يفعل المرء مثله في العادة حين يجيئه ضيف: قدمت له السجاير ليأخذ منها واحدة وأشعلت عود الكبريت. وكنت لا أشعر برغبة في التدخين في تلك اللحظة، فكانت أصابع إحدى يدي ممدودة إليه بالكبريت وأصابع اليد الأخرى تثني الغطاء على السجاير، فلما أشعل سيجارته رددت يدي إلى فمي وزممت شفتي لأنفخ وأطفئ النار ألفيتني أتردد ثم أتناول سيجارة.
وقلت لصاحبي وأنا أنفخ الدخان مثله (أرأيت. . . لم أكن أريد أن أدخن، ولكن العادة غلبتني حين رأيت النار في طرف العود بين أصابعي، وأنا أغالط نفسي وأقول لها مازحا إن الكبريت أغلى من السجاير، وإن من سوء التدبير أن أضيع عود الكبريت من أجل سيجارة واحدة. وتروقني هذه المغالطة لأنها تفتح لي باب القياس والتمثيل فأقول إن الإنسان كثيرا ما يضيع الكثير من جراء حرصه على القليل فما رأيك؟)
قال:(رأيي أن هذا صحيح. وسأقص عليك قصة)
قلت:(هاتها)
وسرني أني أطلقت لسانه وأنه صار في وسعي أن أستريح من الكلام، فإن من نقائصي أني طويل الصمت وإن كنت في العادة ثرثاراً عظيما، واحسبني أهرب بالصمت من الناس، وبالثرثرة من نفسي
وسمعته يقول:(كنت منذ سنوات أتعلم العزف على الكمان، وكان معلمي تركيا ضيق الصدر من أولئك (المولوية) الذين يعيشون في التكايا ويزجون فراغ الحياة بالموسيقى وما تغري به. وكنت قد اشتريت (فرسا) جديدة للكمان - والفرس كما تعرف هي قطعة من الخشب المنجور ترفع عليها الأوتار، فلما رآها أستاذي غضب ورماها وقال إنها غليظة، وذهب يعنفني ويؤنبني كأنما كنت أنا صانعها، أو كأنما كنت أدري قبل ذلك شيئا عن الكمان والأوتار والفرس، فكرهت سوء خلقه وثقل على نفسي سلوكه وزهدت في التعلم - على هذا الرجل على الأقل - وزارني بعد خروجه صديق رآني منقبضا متجهما، فسألني عن السبب فحدثته به، فأحب أن يرى هذه (الفرس) التي أثارت كل هذا الخلاف، وكانت لا