ابتليت كنانة الله في أرضه بالاحتلال الفرنسي، والأمراء المماليك يسومون أهلها سوء العذاب، وسلطان العثمانيين يتقلص ظله من حيث لا يشعرون. ثم إن هذه الفترة قد سجلت صراعاً محتدماً بين إنجلترا وفرنسا من جانب، وبين تركيا والمماليك من جانب آخر.
زعم نابليون أن مصر ستنقاد له بمجرد إذاعة المنشورات التي أعدها وهو لا يزال يمخر عباب البحر، ولم يكن يدري أن المصريين يستعدون للمقاومة الشعبية منذ ترامت إليهم أبناء تحرك سفن الحملة من جزيرة مالطة في طريقها إلى الإسكندرية.
وفي الحق أن الحملة كان مقضياً عليها بالفشل، منذ ألقت مراسيها بالإسكندرية في ٢٠ يوليو سنة ١٧٩٨ لأن المتاعب التي ستواجهها ستزيد على الحصر. وإذا كان في الإمكان ضرب عدو بآخر للتخلص منهما معاً مما لا يحتاج في العرف السياسي إلى غير الحنكة والدهاء، فإن اليقظة الشعبية كانت بمثابة الصخرة الغليظة في حلق الاحتلال.
ومنذ الساعة الأولى بدأت قوات الاحتلال تطارد المماليك حتى تشتت شملهم في أقاصيالصعيد، وخذلوا الشعب الذي لم يريدا من الدفاع عن شرفه ولو لم يكن لديه من سلاح إلا الحجارة والقلاع وأبواب الحارات والسلاسل والمتاريس.
وبينما كان الفرنسيون يتوغلون في البلاد كانت الأنباء تترامى شرقاً وغرباً. أما تركيا فكانت مشغولة ببلواها عن بلوى غيرها؛ وحسبها قلاقلها الداخلية ومشاكلها الخارجية. وعز على إنجلترا - وهي سيدة البحار وأم الاستعمار - أن تنافسها فرنسا في مصر وهي مفتاحها إذا هي أرادت الإبقاء على أكبر جوهرة في تاجها الإمبراطوري الذي لا تغيب عنه الشمس.
ولم يكد شهر يمضى على المحتلين حتى كانوا مضرب المثل في الإجرام: سفكوا دماء الأبرياء، وأعدموا زعماء الوطن رميا بالرصاص، وملئوا السجون والمعتقلات بعلماء الدين، فما وقروا شيبتهم، ولا رحموا ضعفهم، ومضوا بعد ذلك إلى المدن والقرى ينهبون ويسلبون، وهتكوا الأعراض في غير رحمة، وانتهكوا حرمات بيوت الله والناس، وتجردوا