تماماً من العاطفة الإنسانية أو ما يشبهها، وتفننوا في التنكيل بالشعب من كل لون. فأحرقوا الدور بعد انتهاب ما فيها، وأشعلوا النيران في محاصيل الفلاحين، وبعثروا أقواتهم واستاقوا مواشيهم، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والغرامات والفروض، فلم ير المواطنون يدا من الهجرة على غير هدى تاركين ديارهم خرابا يبابا ليس بها ديار ولا نافخ نار. وأما الذين لم يهاجروا فقد أرغمتهم السلطة الغاشمة على دفع الغرامة عنهم وعن جيرانهم المهاجرين.
وفي أول أغسطس أوقع الأسطول الإنجليزي بالأسطول الفرنسي هزيمة منكرة في مياه أبو قير، وعلى أثرها غير نابليون سياسته العنيفة فأقام الحفلات بمناسبة المولد النبوي تمليقاً للعاطفة الدينية عند المسلمين وهم السواد الأعظم، ومع ذلك فإنه ما وجد منهم غير الإعراض التام. حتى إذا جاء يوم ٢٢ سبتمبر وحلت الذكرى الأولى لعيد الجمهورية الفرنسية، دعا نابليون علماء مصر وأعيانها إلى حفل كبير بالأزبكية توسطه عمود ضخم يرمز إلى شجرة الحرية التي يزعمون أن الثورة الفرنسية قد تمخضت عنها، وما أرى المصريون فيها إلا رمزاً على الاستعباد فسموها (خازوق الاحتلال).
اغتاظ نابليون من هذا الموقف السلبي، وأسرها في نفسه وعاودته غريزة الذئب الغادر، فقسا ليزدجروا، وزاد تنكيلا ليرجعوا، وأصدر بذلك أوامره المشددة إلى حكام الأقاليم، كتب إلى قومندان المنوفية يقول (يجب أن تعاملوا الترك (الأهالي) بمنتهى القسوة، وإني هنا (في القاهرة) أقتل كل يوم ثلاثة وآمر بأن يطاف برءوسهم في شوارع القاهرة. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخضاع هؤلاء الناس، وعليكم أن توجهوا عنايتكم لتجريد الشعب قاطبة من السلاح).
وكتب إلى الجنرال مينو قومندان رشيد بأنه يأمر بقتل خمسة أو ستة يومياً ثم يقول له (لقد كنا نتفادى التعرض لهم حتى نزيل عن سمعتنا وصمة الإرهاب تلك التهمة التي كانت تسبقنا إلى أذهان الناس) وصدق المثل: رمتني بدائها وانسلت، ولكن هيهات هيهات أن ينفذ شعاع من رحمة إلى قلوب المتوحشين الذين جاءوا من أوربا الجائعة ليشبعوا جوعتهم من دماء الوادعين في بلادهم.
وإذ ذاك كانت (لجنة الثورة) تنعقد بالجامع الأزهر، وقد استنفذ والحكماء كل السبل لحقن الدماء واستتباب الأمن؛ فكان لابد أن تنفجر مراجل الصدور بهذه المظالم الفادحة والمجازر