أما وقد تحدثت إليك في الفصول السابقة عن ألفاظ الشعر ومعانيه؛ وبينت أن للشعر ألفاظاً ومعاني مختصين به، لا يشاركه فيهما غيره من الكتابة والخطابة؛ وأوضحت الفرق بين المعاني الشعرية وغيرها من المعاني البسيطة؛ ومثلت لجميع ذلك بما أوضحت به الغرض من شعر القدماء والمحدثين؛ فإني متحدث إليك اليوم عن شعراء الألفاظ فأقول:
قد يفرط بعض الشعراء في تحسين الألفاظ وتجميل العبارات مع خلو الشعر من المعاني الحية، والأغراض الملائمة للبيئة، والتفكير المساير لثقافة العصر، فلا ترى في القصيدة على طولها، بل في الديوان على ضخامته صورة صادقة منتزعة من حياة الأمة ولا من حياة الشاعر نفسه، بل يعمد الشاعر إلى معاني سواه من الشعراء المتقدمين فيرددها في شعره، ويحشو بها قصائده، ويحاول أن يخدع القراء عن هذا التقليد بألفاظ يجيد تهذيبها، ويحسن اختيارها، ويجري فيها على مذهب القدماء من الفخامة والجزالة والمتانة، ومع هذه الفخامة وتلك الجزالة فإنك تشعر في مجموع القصيدة وفي كل بيت من أبياتها ببرودة الموت وسكون الفناء، كأنك ترى جسماً ميتاً يبدو الجمال على محياه، وما يجدي الجمال مع فقد الحياة؟ فإنه مما لا نزاع فيه أن للمعاني كما لذوات الروح أزمنة محدودة تحياها، وأعماراً معدودة تعيشها؛ وأن من المعاني ما ينقضي أجله بمجرد انقضاء الحادثة التي قيل فيها، فإذا قيل بعدها عدّ من المعاني الرثة البالية؛ ومنها ما يخلد على توالي العصور وتعاقب الأجيال ويظل جديداً على قدمه، يغالب الزمن بما فيه من عناصر القوة والبقاء، ويدافع العدم بما فيه من أسباب الحياة، وذلك إذا تعلق المعنى بغرض عام في حياة الإنسانية جمعاء، وصلح أن يتخذ مثلاً سائراً بين جميع الأحياء؛ ومنها ما يخرج من فم قائله ميتاً، كالسقط الذي لم يستهل صارخاً، لا يستحق غسلاً ولا تكفيناً، لأنه ولد دفيناً؟ وكثيراً ما ترى ذلك في شعر التقليد وقصائد المعارضات التي يجاري فيها الشعراء من تقدمهم ن فحول