وبالجملة فمن عيوب الشعر التي لا تغتفَر أن يُعنى الشعراء بالألفاظ دون ملاءمة المعاني للبيئة التي يعيشون فيها، ومسايرتها لثقافة العصر الذي قيل فيه الشعر
ومن هؤلاء المرحوم (محمود سامي البارودي) فقد كان رحمه الله غريباً في مصره، وصياغة عصر غير عصره، ومغرداً في روض العلويين بأغاريد العباسيين، ومُسمعاً دولة إسماعيل وتوفيق ما لا يطرب له غير الرشيد وأنداده من أمراء المؤمنين، فهو شاعر جاء متأخراً عن زمنه، بعيد العهد بينه مبين أقرانه وأساتذته من أوائل العصر العباسي إلى أواسط القرن الرابع، وهم الشعراء الثلاثون الذين اشتملت مختاراته الضخمة على كرائم قصائدهم، وعيون شعرهم في أهم أبواب الشعر وأجل أغراضه في تلك العصور وهي المديح والرثاء والأدب والصفات والنسيب والهجاء والزهد.
ولم يزل هذا الكتاب منذ طبع حتى اليوم ينبوعاً صافي المورد، ومنهلاً عذب الشريعة، يرده الأدباء والمتأدبون ظماء، ويصدرون عنه رواء، فكم من أديب نابغ في هذا الجيل قد تخرج عليه، وعلم من أعلام البيان العربي كان مرجع بيانه إليه، وشاعر فحل زكت شاعريته، ونمت موهبته بالرواية عنه، والأخذ منه، ولسان منعقد حلت عقدته بمطالعته، وانطلق من وثاق اللكنة بمذاكرته، وتعلم صقل الألفاظ، وعلو البيان، وإشراق الأسلوب بدوام النظر فيه، ومحاكاة ما يعلق بالذهن واللسان منه؛ وكم خابط في ظلمات العجمة استوضح معالم العربية الصريحة، وملامح الصور الشعرية الصحيحة بضوء مصباحه، فهذه المجموعة في حسن ما اشتملت عليه من قصائد المولَّدين وجدواها على الأدباء والمتأدبين، وكثرة من تخرج عليها من الشعراء المجوّدين، أشبه الكتب بحماسة أبي تمام وإن اختص كل منهما بشعراء عصر، فمختار أبي تمام مقطعات من شعر العربية الخالصة التي لم يشُبها توليد، وختار البارودي قصائد من شعر الموّلدين؛ فحيث انتهى أبو تمام في حماسته ابتدأ البارودي في مختاراته، فهو كالذيل له، وإن كان أضفى من الثوب، وقد كان يقال: إن أبا تمام في اختياره، أحسن منه في أشعاره.
وعندي أن البارودي يشبهه في ذلك، بل هو أولى منه بهذا الحكم الأدبي العادل.
فجميع شعره ليس إلا تقليداً لشعر هؤلاء الثلاثين الذين اختار لهم، ولا نزاع في أن الأصل