أقوى في بابه من التقليد مهما بالغ المقلد في أحكام عمله، وتنوق في تقليده.
أما أبو تمام فلم يقلد أحداً في شعره، بل كان إمام مذهب شعري خاص موسوم به، معزوٍّ إليه؛ لم يُسبق فيه بأحد قبله، وتابعه عليه كثيرون ممن عاصره أو جاء بعده.
وناهيك بما كابده البارودي رحمه الله من العناء والجهد في جمع هذه الدواوين التي كانت تعد في عصره من نوادر الكتب ونفائس الخزائن، وذخائر الكنوز الخطية التي لم تصل إليها يد النشر بطبع ولا نسخ، إذ كان بعضها في خزائن العظماء والسراة يتوارثونها فيما يتوارثون من ذخائر وطرائف لا يعرفون قيمتها، ولا يدرون ما يُفعل بها؛ وكان أكثرهم بل كلهم من أمراء الترك الذين استوطنوا هذه البلاد واتصلوا بملوكها، أما بالمودة أو بالقربى أو بالعمل، واستأثروا بالثروة الوافرة والجاه العريض؛ وكانوا يحشدون في خزائنهم تلك الكتب مباهين بعضهم بعضاً في جمعها، لا في نفعها، وقد آل بعض هذه الخزائن إلى دار الكتب المصرية من عهد قريب، كمكتبة المرحوم طلعت بك وحليم باشا وغيرهما، ويشهد الله ما فتح أكثر هؤلاء من كتبهم سِفراً، ولا قرءوا منها سطراً، وإنما كان يبهجهم ما يرون في بعض هذه الكتب من النقوش الفنية البديعة، والصور المتقنة الرفيعة، ويبهرهم من الكتاب ما يرون فيه من نفاسة الغلاف، والعلامات الذهبية في أواسط الصحف أو على الأطراف، وغير ذلك مما يسترعي الأبصار، دون الأفكار.
ولا يزال بيننا الآن من الناس من لهم كلَف شديد باقتناء الكتب: إما ببذل المال الكثير في شرائها، أو باستهدائها من مؤلفيها وجمعيات نشرها، ويتنوقون في تجليدها تجليداً حسناً، وينقشون أسماءهم عليها بالذهب، ويرتبونها في خزائنها ترتيباً متقناً، وينسقونها في مواضعها تنسيقاً فنياً يبهج الناظر، متوخين في ترتيبها التجانس في الألوان والأحجام، دون العلوم والموضوعات، إذ كانوا لا يفقهون من ذلك قليلاً ولا كثيراً، ولا يدركون من نفعها جليلاً ولا حقيراً؛ معتقدين أن حجرة الكتب مما تتم به مرافق البيت، كحجرة الزائرين وحجرة الطعام وما إليها، فإن قدم عليهم زائر أدخلوه حجرة الكتب ليرى أثر النعمة عليهم، بجمع هذه التحف لديهم.
وكان بعض هذا الكنز الثمين مدفوناً بين أنقاب المساجد وفي كوَى الزوايا في حراسة الجهلة من خدمها، يبيعونه لتجار الفرنجة بيع يوسف بثمن (بخس دراهم معدودة وكانوا فيه