في البيت الأبيض - حيث يقيم الرئيس ترومان - أبدع ما أخرج الفن الحديث من معجزاته الروائع، فيما يرى الناظر من التماثيل القائمة في مداخل القصر وحدائقه، وفي أبهائه وتحت شرفاته. طراز جديد من فن المثالة الحديثة، يكاد يسبق هذا الآيات الخالدة التي حفظها لنا التاريخ عن أيدي الإغريق. وإذا كانوا يقولون أن الفن الإغريقي قد سبق الطبيعة، وكأنه في سبقه لها، وتجاوزه لصورها، يقيم لها مثالا يتحدث إليها في صمت: بأنه كان يجب أن تكون على غراره - فإن تماثيل البيت الأبيض لا توحي بهذا إلى النفس فقط، ولكن كل واحد منها ينطق مفصحاً عما يريد، حتى ليرن صدى صوته في الأذن، وحتى لتكاد أسارير وجهه تأخذ بين الفينة والأخرى مسحة جديدة تعبر عن عواطفه، وحتى ليكاد الرائي يسمع خفقات قلبه بين ضلوعه الصخرية الجامدة.
وهم يقولون أن الرئيس ترومان كثير النظر إلى هذه التماثيل طويل الوقوف إلى جانبها، وإنه - على أن السياسة تأخذ حياته من أقطارها - له لحظات يخلو فيها إلى الفن، حيث تسبح نفسه إلى عالم الخيال ساعة من نهار، وإن انغمست بقية يومها في متاعب الدولار.
ولعل أبلغ هذه التماثيل أثراً في نفس الرئيس ترومان، هو تمثال الوطن، وهو يتألف من صخرة طبيعية قد اتخذ المثال من جانبها الممتدين في أنحاء درجاً يصعد يمنة ويسرة، حيث يلتقيان عند سطح مستو ينهض فيه تمثال أم حنون، تستقبل أطفالها عند الغروب، وهم يصعدون إليها في جانبي الدرج متدافعين متعثرين، ولكن جباههم على تعثرهم تتجه نحو الأم دائما، بينما تمد الأم يديها نحو الجانبين جميعا، لا يليها أحد عن الآخر، في إقبال كله العطف والرحمة والوفاء.
قالوا أن الرئيس ترومان قد ألف الوقوف إلى جانب تمثال الوطن، وإن جواره للتمثال أمر لا مفر منه في حياته اليومية لأنه تمثال الوطن - مع أنه يقع خلف البيت الأبيض وفي جانبه لذي تكاد أبوابه تغلق طوال العام - هو طريق وحيد يدلف منه المار إلى ربوة صناعية تحتشد فيها مواكب من الزهر النادر؛ تآزر فيها جمال الطبيعة مه ألوان التطعيم