الصناعي، يختلف إليها الرئيس من حين لآخر، ينشد عندها نشاط نفسه وإشراقها، كلما أرهقتها مظالم الحضارة.
ولكن المتصلين بالرئيس ترومان قد رأوا منه ما أثار الدهشة في نفوسهم. فقد أخذ وقوفه إلى جانب التمثال يقصر عن ذي قبل، ولم يعد سكونه إليه يحفه هذا الحلم الجميل يشيع في أقطار نفسه، ثم يستحيل في جبهته وعارضه ضياء مشرقاً. لم يعد سكون الأحلام والطيوف، ولكنه ذهول عميقتكتسي فيه صفحة وجهه فنوناً من الألوان تضطرب دائماً بين الشحوب والسواد. ولم يمض غير يسير من الزمن حتى هجر الرئيس تمثال الوطن، ولم يعد يختلف إلى هذه الربوة من النوار، يصطنع فيها ما يصطنعه الفنانون وأصحاب العاطفة، حين يقرءون كتاب الوجود في المروج والزهر. وللرئيس مع تمثال الوطن ما نسميه مجرى العادة المكبوتة - إذا صح التعبير - لا يكاد يتجه نحوه عن غير قصد، حتى يدور على عقبه في حركة عصبية لا تخلو من ألم، والتفاتة مفاجئة لا تخلو من حزن، وسرعان ما يجري في تضاعيف وجهه سحابة ليست هي الألم والحزن، ولكنها شيء أمر من النسيان تصرخ في جوانبها المغالطة، يضطرب فيها الرئيس أشد الاضطراب وأعنفه وقد خذله النسيان كلما مر بتمثال الوطن.
ويؤرخ المراقبون لحياة الرئيس اليومية هذه الحركة لا تخلو من حزن مرير يخالطه الألم والخوف واليأس جميعا بعام سنة ١٩٤٨ بعيد خروج العرب من فلسطين عنوة، بأمر الرئيس ترومان وتدبيره، ويقولون أنه غالب شعوره في أول الأمر بفنون من رباطة الجأش المصنوعة، وضروب من الجمود لا تجديه فتيلاً، ومع أن الرئيس ترومان معروف بإصرار مرهق مبعثه الجمود، ومشهور بجمود طبيعي مبعثه الإصرار سواء في الحق أو الباطل. . . فإن جموده الطبيعي قد خانه في موقفه مع التمثال، فلا تكاد عينه تقع عليه حتى تمضي في أعصابه هزات عنيفة هي هذه الصواعق المهلكة من الحزن والألم والخوف جميعا، وحتى تمضي بنفسه خواطر صارخة قاتلة، تحمل في بروقها شريطاً متصل النكبات على نفسه الإنسانية، فيما يتمثل له في الجوع والعرى والبرد والفقر. . .
ولو أن ما تحمل الذكرى إلى نفس الرئيس ترومان كان مقصوراً على الفقر والعرى والجوع والبرد، لهان أمرها وغالب ضميره بشيء من الجمود هو فيه طبيعي، واستطاع أن