ينسى إنسانيته في ساعات الذكرى، لأن الفقر والعرى والجوع والبرد هي محن مادية مهما بلغ أثرها، تصيب الجسم فتسبغ عليه النعمة والرقة، أو تذيقه الشقاء والألم. مصابه ليس إذن ماديا، ولكنه مصاب روحي يتجاوز هذه الكلمات اليسيرة فيما نسميه الظلم والنعرة والطغيان. مصابه أنه أوضح للخليقة، وكتب بيده في سجل التاريخ، أنه رجل لا يدرك ما معنى الوطن، ولا يستطيع أن يحس هذه الروابط المقدسة الحبيبة بين الإنسان ووطنه، على سهولة إدراكها، ويسر الشعور بها - حتى عند الحيوان - لأنها من أوليات الشعور.
أما لك أيها الرئيس منزل بالريف، ورثته عن (أبوك) مثلاً، متواضع أشد التواضع، حتى ما تحب أن تستقبل فيه ضيفك، ولكنه على تواضعه، وعدم أهليته لاستقبال الضيف تحب أن تراه من آن لآخر؟ فتهجر البيت الأبيض، وما أقامت لك في فيه أمريكا من مجد مغصوب زائف، إلى حيث هذا المنزل المتواضع، حيث تحس في قربك منه برد الراحة، يرد إلى نفسك الشفاء والعافية، وقد أثقلتها مظالم الحضارة، وحيث تشعر بجمال الصدق والبقاء على الوفاء في موطن هجرته إلى خير منه، فما تغير عليك إذا فارقته، ولا تنكر إذا هجرته، ولكنه ظل صادقا في استقباله لك، وفياً مخلصاً يحمل إلى قلبك خير الذكريات حتى أصبح جزءاً من حياتك، أو هو الحياة نفسها في أسمى معانيها الروحية.
لقد سمعت أن الدكتور فاضل الجمالي معنى أشد العناية بعرب فلسطين الذين طردهم ترومان عنوة من ديارهم قبيل الانتخابات (النظيفة) التي أعطته مكانه في البيت الأبيض. لقد عرض عليهم ترحيب البلاد العربية بقدومهم، وأنهم منها ومن صدور أبنائها في المكان الرحب الكريم، فماذا كان جوابهم؟ لقد أجابوا: لا نريد بغير وطننا بديلاً. ليس هناك جواب اصدق وأروع من جوابهم:(لا نريد بغير وطننا بديلاً). وإني أؤكد - وهم العرب الخلص - لو كانوا قد نشأوا في سبيريا وفي أصقاع الشمال الباردة، ما ألهتهم عروبتهم الخالصة عن نسيان وطنهم في سيبريا ذات البرد القاتل، ولكان جوابهم: نحن عرب، ولكننا لا نريد بغير وطننا بديلاً.
إن الشعوبية أو العصبية الجنسية لها أواصرها القوية، وروابطها المقدسة، ولكن روابط الأوطان تظل أبدا أقوى وآكد، لأن روابط الشعوبية تقوم على الدم واللغة وطراز الحياة، وهي في جملتها روابط روحية بحتة في جملتها وتفصيلها، إنها الروابط الرفافة ذات