هل يستطيع صديقي الأستاذ الطنطاوي أن يحصر الجدل في هذه الصخرة الراكزة التي يخيل إلي أني وضعت عليها الفلسفة الإثباتية واليقين الديني، وقيمة العلم والحضارة حين اهتديت إلى ما زعمته القضية الفكرية الأولى، وهي الملخصة في هذه الجملة:
(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون، فلن يؤمن الفرد الإنسان ي بهما أن لم يؤمن أولا بنوعه، لأن عقل النوع هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله وروحه، فلا يبقى لنا ما ندرك به كوننا وربنا!!).
ولو وقف صديقي أمام هذه القضية التي هي كما قلت (أشبه ما تكون بمعادلة رياضية) لعرف أي نظرة جديدة إلى الكون تتراءى من خلال هذه الفكرة، وأي أفق رحيب يتفتح للنفس البشرية من ورائها، وأي توفيق لطريق حل مشكلات العيش والفكر يتراءى منها!
وقد زعمت أن ي اهتديت إلى القضية الفكرية والدينية الأولى حين اقرر هذه القضية، فإن لم أكن سبقت إلى الاهتداء إليها، فهذا هذا الزعم صحيح، ونعم هو من توفيق يحمد الله عليه اجل الحمد.
وقد قلت في مقدمة الكتاب:(وأكاد أرى أن الموقف الفكري في هذه القضية يسبق موقف (ديكارت) حين اثبت (وجود الذات المفكرة)، واتخذه أساسا بني عليه فلسفته الإثباتية؛ إذ أنه من أين لديكارت أن يثبت أن لتلك الذات قيمة واعتبارا، وأن لما ينتج منها من الفكر قيمة واعتبارا أن لم يثبتهما أولا للنوع الذي تنتسب إليه هذه الذات، ليكون لما يصدر عن أفراد ذلك النوع تلك القيمة وذلك الاعتبار؟
فالموقف الطبيعي الأول هو أن نرصد أولا هذا النوع الإنسان ي كله بعين غريبة عنه، مفارقة وجوده، لنثبت له مكانته الخاصة في الكون، وخصوصا بعد أن وصل فكره وجهده أخيرا إلى أن يكون عاملا عظيما من عوامل الحكم والتكوين والتخريب في الطبيعة، ثم تأتي بعد ذلك جميع مواقف الإثبات واليقين).
والطفل في نشأته الأولى يدرك الكون والناس إدراكا فكريا قبل أدراك نفسه وأعماقها، فينبغي مسايرة للنشأة الطبيعية أن لا نحاول إثبات (الذات المفكرة) كما فعل ديكارت إلا بعد