للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ذكريات لندن]

عربيد

للأستاذ عمر الدسوقي

في لندن للمصرين نَدِىّ، يختلف إليه الأخيار والأشرار؛ بعضهم لرؤية صديق، أو التزود من أبناء الوطن، أو الاستجمام من عناء الدرس؛ وبعضهم لقتل الوقت في لعب الميسر واللهو في غير كرامة ولا وقار

وكانت لنا فيه جلسات ممتعة، لمصر منها قِسط الأسد، ننتقد الساسة من غير تحرج ولا هيبة، ونضع خطط الإصلاح الجريئة، وتنفطر قلوبنا أسى ولوعة على مصر وما تعانيه، ونحتدم في جدال عنيف كله لمصر ولخير مصر

وفي ذات مساء، بينما نحن جلوس حول المدفأة، ندفع بحر ناره زمهرير الشتاء، نجول ونصول كعادتنا، في السياسة تارة وفي الأدب أخرى، إذ دخل علينا فتى في شرخ الشباب، رَبعةَ عريض المنكبين، غائر العينين بارز الجبهة، أسمر البشرة؛ فحيا بأدب، ثم اتخذ مجلسه بيننا، ينصت إلينا ولا يشاركنا، ثم بدا له فزج بنفسه في الحديث، وخب فيه ووضعن وبعد لأي قصّ علينا قصته، قال:

جئت ناديكم اليوم، أطلب الغياث والنجدة، فقد نزحت إلى لندن طلباً للعلم منذ شهرين، وأقمت مع زوجي وابنتي الصغيرة في منزل مؤثث؛ وفي ذات يوم تسلمت كتاباً من سيدة إنجليزية، تعرض فيه استعدادها لخدمتنا، مدة شهر الصوم، وتدعى أنها مسلمة من ذوات التقى والورع، وأن الذي حداها للكتابة إلينا، إشفاقها علينا، فخدعنا بكتابها المعسول، وبرحنا منزلنا إلى منزلها؛ وقضينا اليوم الأول لا نلاقى إلا كرماً وأريحية، فذهبت الوحشة واطمأنت النفوس؛ وخرجت في اليوم التالي مبكرا، وأُبت متأخراً، فوجدت زوجي تبكي وتنتحب، وقد ضمت طفلتها إلى صدرها، فسألتها، ما بالُها؟

- لقد مر بنا يوم عبوس قمطرير، قَفَّت فيه أوصالنا من القر، وجمدت أطرافنا من البرد، وجاعت فيه الطفلة حتى أشرفت على الموت، واستغثنا بربة البيت مراراً، فلم يزدها نداؤنا إلا إعراضاً عنا وازوراراً. ذهبت إليها استعطفها وأسترحمها، فأرتني وجهاً كالحاً كئيباً، وأسمعتني من هجر الكلام ما تعافه آذان الأحرار، وها أنت ذا تراني أعاني والطفلة السغب

<<  <  ج:
ص:  >  >>