للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الأدب والخلود]

بدت في أفق الوجود منذ أقدم العصور أنواع كثيرة من الحيوان والنبات، ظلت تتصارع مع إرادة البيئة وعوامل الموت والحياة حقبا طوالا، حتى فرق بينها قانون (تنازع البقاء) بكلمته الحاسمة، فسكنت رحى الحرب وأسفرت تلك الوقائع عن خطوط متباينة لكل نوع منها عن الآخر: فمنها ما كان ضعيف الايد فقير العدة لم يستطع أن ينجو من نار هذا التنافس المستعر فالتهمته ألسنتها وأسدلت على كيانه وذكراه حجاب العدم إلى الأبد، ومنها ما جاوزته هذه النيران وقد أبقت منه هيكلا هشيما أو بقايا منثورة لم تزل مطمورة تحت أطباق الثرى حتى عثر عليها رجال الآثار والحفريات فنشروها في صدور المعارض والمتاحف، ووهبوها بعثا جديدا لحياة الذكرى. وكان هناك غير هذين ما وهبته الطبيعة أمضى الأسلحة للوقاية أو السطوة، فكان هو الصامد للهول الصائل في المجال حتى خرج مظفرا منصورا رافعا لواء الحياة!

كذلك في أفق الفنون والآداب نرى مثل هذا الصراع العنيف دائر الرحى بين أنواعها المختلفة، وبين مؤثرات العدم والوجود، كأنها كائنات حية شاخصات الجثمان تحكم بينها قوانين النشوة والبقاء. ولئن كانت حرب الأنواع المادية قد خمدت نارها منذ آماد لتؤول إلى نضال آخر بين فصائل النوع الذي ظفر بالبقاء، فأن صراع منتجات العقل وبخاصة ما كان في دائرة الأدب لما يزل حامي الوطيس مشتعل اللهيب منذ أخذ الفكر وأخذت العاطفة تفتح عيونها على الكون، وتتعرف ما فيه من ظواهر وأسرار إلى اليوم. وسيضل هكذا يزداد أواره احتداما كلما نما العقل واتسعت شعاب الحياة أمام العواطف، وكلما ارتقت مثل الإنسانية وآمال المجتمعات والأفراد في سماء الحضارة الرحيبة الآفاق، فكل أدب واهن القوى أو فاقد الأداة لا بد أن يكون مصيرهكمصير ذلك الكائن الضعيف إما فناء أبديا أو فناء يتخلله البعث للذكرى في خزائن الكتب، أو شوارد التاريخ أو على جدار المعابد، وكل أدب موفور القوة موهوب المناعة لابد أن يغالب الزمان ويبقى على الحدثان. هكذا توزعت الجدود على أنواع الأدب في كل عصوره الماضية وكذلك سيبقى نظامها، وقد تكون تلك الظاهرة ملحوظة في جملتها قريبة الإدراك بشكل عام عند من يتنبهون إلى حقائق الموت والحياة في المعنويات كما يعرفونها في الحسيات، ولكن الغموض وسوء الإدراك إنما يقعان في تحديد معاني هذه الحقائق، ودقة الإحاطة بمدلول كلمات الضعف والقوة والغلبة

<<  <  ج:
ص:  >  >>