للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حقيقة المسلم]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

لا يعرف التاريخ غير محمد (صلى الله عليه وسلم) رجلاً أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها، فتحو لها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو (صلى الله عليه وسلم) وجودٌ سارٍ فيها فما تبرح الإنسانيةُ تنمو به وتتحول.

كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعت الله تاريخ العقل بآدم جديدٍ بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانيةُ دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها. كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان محمدٍ سرُ كمالها.

ولهذا سمي الدينُ (بالإسلام)؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملهافي كمالها ومعاليها؛ فلاحظ له من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ.

وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ: مبدأ إنكار الذات و (إسلامها) طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها؛ وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي. وهو أبداً يروضها على هذه الحركة ما دام حيا؛ فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية: يروضها على ذلك كل يوم وليلةٍ خمس مراتٍ مسماةٍ في اللغة خمس صلوات، لا يكون الإسلام إسلاماً بغيرها؛ فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي (صلى الله عليه وسلم): هي عماد الدين.

بين ساعاتٍ وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكارٌ لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظاتٍ في حيز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها. ومعنى ذلك كله طرقاً تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها!

<<  <  ج:
ص:  >  >>