للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء الإسلام ليهدي الإنسانية إليها؛ حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا المهلكة حرباً في خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه؛ فلا يكون ذهبه وفضته ما كتبت عليه (صنع في مملكته نفسي)؛ ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ حسب، بل للعطاء أيضاً؛ فان قانون المال هو الجمع؛ أما قانون العمل فهو البذل.

بالانصراف إلى الصلاة وجمع النية عليها، يستشعر المسلم أنه حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده.

وبالقيام في الصلاة، يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده.

وبالتوالي شطر القبلة سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة؛ فيحمل قلبه معنى الاطمئنان والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها.

وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون.

وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالساً فوق الدنيا يحمد الله ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو.

وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالاً جديداً من جهتي السلام والرحمة.

هي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقتٍ وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من وراءه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع. هي خمس صلوات، هي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلبُ مما امتلأ به من الدنيا، فما أدق وأبدع وأصدق قوله صلى الله عليه وسلم: (جُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة).

لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعاً للصيغة العملية التي تنتظم الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها حراساً على القلب المؤمن كأنها ملائكةٌ من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>