إصلاحياً وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخلق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سمو فوق الحياة بثلاث طبقات، وتدرج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعادٌ عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.
وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمةُ التي أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) دنيا أسلمت طبيعتها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة العجيبة أن إقليماً من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين؛ وكأن الله تعالى ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثه الإلهي لأمره، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غسلت بها الدنيا. . .
لهذا سمع المسلمون الأولون كلام الله تعالى في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يسمعون القول، ولكن كما يتلقون الحكم النافذ المقضي؛ ولم يجدوا فيه البلاغة وحدها، بل روعة أمر السماء في بلاغة؛ واتصلوا بنبيهم، ثم بعضهم ببعض، لا كما يتصل إنسان بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوة المد، ثم كما يمد بعضها بعضاً في قوةٍ واحدة.
وحققوا في كماله (صلى الله عليه وسلم) وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يرى فيه الشيء لا شيء.
ورأوا في إرادته (صلى الله عليه وسلم) النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس، فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتبٍ ولا علمٍ ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده.
وعرفوا به (صلى الله عليه وسلم) تمام الرجولة؛ ومتى تمت هذه الرجولة تمامها في إنسان رجعت له الطفولة في روحه، وامتلك تلك الطبيعة التي لا يملكها إلا أعظم الفلاسفة والحكماء، فأصبح كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخطوات مُسددةٍ لا تزيغ ولا تنحرف فلا شر ولا رذيلة، ودنياه هي الدنيا كلها بشمسها وقمرها، يملكها وإن لم يملك منها شيئاً ما دامت في قلبه طبيعةُ السرور، فلا فقر ولا غنى مما يشعر الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غني كامل، إذ لم تعد القوة في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها، بل القوة في