للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الروح التي تتصرف بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولة النامية المتغلبة، حتى لتجعل من النور والهواء ما يُؤتَدَمُ به مع الخبز القفار، كما يؤتَدَمُ باللحم وأطايبِ الأطعمة.

وبذلك لا تتسلط ضرورةٌ على الجسم - كالجوع والفقر والألم ونحوها - إلا كان تسلطها كأنه أمرٌ من قوةٍ في الوجود إلى قوةٍ في هذا الجسم أن تظهر لتعمل عملها المعجز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على أغصانها الخضر؛ لو قالت: (إن ثروتي في الحياة هي الحياةُ نفسها، فليس لي فقرٌ ولا غنى، بل طبيعةٌ أو لا طبيعة. . .).

ولقد كان المسلم يضرب بالسيف في سبيل الله، فتقع ضربات السيوف على جسمه فتمزقه؛ فما يُحسها إلا كأنها قُبل أصدقاء من الملائكة يلْقونه ويعانقونه!

وكان يبتلى في نفسه وماله، فلا يشعر في ذلك أنه المُرزأُ المبتلى يُعرف فيه الحزنُ والانكسار، بل تظهر فيه الإنسانية المنتصرة كما يظهر التاريخُ الظافرُ في بطله العظيم أصيب في كل موضعٍ من جسمه بجراح، فهي جراحٌ وتشويهٌ وألم، وهي شهادةُ النصر!

ولم تكن أثقالُ المسلم من دنياه أثقالاً على نفسه، بل كانت له أسباب قوةٍ وسمو؛ كالنسر المخلوق لطبقات الجو العليا، يحمل دائماً من أجل هذه الطبقات ثقل جناحيه العظيمين.

وكانت الحقيقةُ التي جعلها النبيُ (صلى الله عليه وسلم) مثلهم الأعلى، وأقرها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله - أن الفضائل كلها واجبةٌ على كل مسلم لنفسه، إذ أنها واجبة بكل مسلم على غيره؛ فلا تكون في الأمة إلا إرادة واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو إلا روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعماله وحدها؛ المسلم إنسانٌ ممتدٌ بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها، لا إنسانٌ ضيقٌ مجتمعٌ حول نفسه بهذه المنافع؛ وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر: تقول الأمانة لكليهما: (لا قيمة لميزانك إلا أن يصدقه ميزان أخيك. .).

ولن يكون الإسلام صحيحاً تاماً حتى يجعل حامله مثلاً من نبيه في أخلاق الله؛ فما هو بشخص يضبط طبيعته، يقهرها مرةً وتقهره مراراً؛ ولكن طبيعةٌ تضبط شخصها فهي قانون وجوده؛ لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟ لا يخاف من

<<  <  ج:
ص:  >  >>