للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الثقافة والأخلاق]

للدكتور محمد مندور

هذه مشكلة ما زالت تلح على عقلي منذ أخذت أفكر لنفسي، ولقد كنت ولا أزال أحس أن حلها ضرورة من ضرورات الحياة، لأنها تفسر الكثير من مواقفنا إزاء الناس، فالحديث عنها ليس مجرد رياضة عقلية نلهو بها ونلهي القارئ - وهذا نوع من الحديث تنفر عنه نفسي بطبيعتها وما أرى فيه نفعا لأحد - فمهمة الكاتب لا ينبغي أن تكون الإفحام بالجدل، بل الإقناع بالقلب، ولن تصل إلى إقناع إلا إذا اكتفيت بأن تعرض تجاربك النفسية داعيا الغير إلى مثلها

أول ما أثار تلك المشكلة في نفسي هو ما قرأته في صدر الشباب (لأفلاطون)، إذ يعرض نظرية (سقراط) في أسس الأخلاق؛ ومن المعلوم أن هذا الفيلسوف الجليل كان يرى أن المعرفة هي عماد الخلق، وقد زعم أنك لا تستطيع أن ترتكب الشر إذا أدركت إنه شر، وأنك لابد آت الخير إذا تحققته بنظرك. ولقد أبهج خيالي هذا الرأي، ولكنني كنت أنظر فأرى نفسي وأرى غيري ندرك الخير والشر، ثم لا نملك أنفسنا من الاندفاع في أعقاب الهوى، فيساورني الشك. ووقع بين يدي يوماً قول لفيلسوف فرنسي معاصر هو بول جانيه يقول فيه: (إن الإنسان بطبيعته يفضل الخير المحسوس على الخير المدرك). ولما كانت شهوات النفس أقرب إلى الحس منها إلى الإدراك المجرد، فقد كان من الطبيعي أن تستأثر بالنفس ما دام هدفنا الأخير من الحياة هو التماس السعادة بتحقيق أكبر قسط مستطاع من رغباتنا، وليس من شك في أننا نحس أن خيرنا في هذا التحقيق. وذلك ري يبلبل الفكر، ولكنك لن تعدم السبيل لرده إذا تعمقت الأمور، فأنه وإن يكن من الصحيح أننا نفضل الخير المحسوس على الخير المدرك، إلا أننا لن نعجز عن تغليب الخير الأخلاقي إذا أنزلناه هو الآخر منزلة الخير المحس. وذلك بألا نكتفي بتحقيقه بالنظر المجرد، بل نتعمق به إلى مجال الإحساس فندرك بقلوبنا ما فيه من جمال. وجماله تلحظه في صفات ثلاث يورثها النفس وهي: الحرية والقوة والمرح. فأما الحرية، فأي نشوة يستشعرها الفرد عندما يحس إنه لم يعد عبدا لشهواته، وأما القوة، فهل نحن بحاجة إلى أن نبصر القارئ بعظمة النفس البشرية عندما تنطلق بقوتها كاملة لا يحدها نفع حقير تحرص عليه، أو رغبة وضيعة

<<  <  ج:
ص:  >  >>