لا أدري لماذا يهزني شوق إلى حماة، ويهفو قلبي إليها كلما ذكرت، ويردد لساني اسمها في كثير من التقدير، وأقف عند ترديده وقفة المتأمل المستهلم، مستعرضاً على ذاكرتي لمحات من لمحات تاريخها الفياض، فتشرق منه سماء الذهن ومضات من أمجادها الماضية، يستشعر منها القلب ضروباً من الجلال والقدسية، ويتجدد بها للنفس ألوان من الدهش والإعجاب، بهذه المدينة الشامية المصرية المجيدة الساحرة.
حرت حقاً في تعليل هذا الشعور الذي ينتابني كلما ذكرت حماة، ولم تربطني بها وشيجة ولا وليجة، ولم تصل حبالي بحبالها ليال ولا أيام، ولا اكتحلت العين بمرآها ولو مرة واحدة، ولم يجش في النفس أمل بلقياها والنعيم عهداً بالمقام فيها.
قلت للنفس: لعل هذا الشعور أثر من تلك الآثار التي أفدتها من مصاحبة تقي الدين بن حجة الحموي، وليد هذه المدينة، وأحد أدبائها النجباء، فلقد صاحبته في بعض مؤلفاته، ودراسة آرائه وأفكاره، وقرأت في إمعان كثيراً من فصوله، ووعيت في إعجاب عديداً من مذاهبه، وكان رفيقاً في صحبته، حبيباً في حديثه. حتى كان في مقدمة الأسباب التي حببت إلى دراسة عصره، ومهدت لي السبيل إليها، وأنارت لي الطريق لبلوغ مأربي منها.
ولقد راعني منه فيما راع، ولوعه بمدينته تلك، ولوعا تردد صداه في كثير من منشئاته، ولوعا لم يزايل قلبه ولم يفارق فؤاده في يوم من الأيام، على الرغم من انتزاحه عنها واغترابه منها زمناً طويلاً. وتلك لعمري مكرمة منها ومحمدة له، جديرتان بأن تشعرا القلب بالجلال والإعجاب كلما ذكرت حماة.
لقد ولد ابن حجة عام ٧٦٧هـ بحماة، ثم شب وتعاطى الأدب. وطفق ينشئ وينظم ما شاء له الفن والهوى. وطوف في بعض الآفاق، حتى اتصل حبل وده وخدمته بسلطان مصر الملك المؤتد شيخ، حينما كان أميراً في بلاد الشام. فلما تم له أمر السلطنة في مصر عام ٨١٥هـ جمع من حوله حاشية من أهل وده، ممن دانوا له بالولاء في عهد إمارته، وألقى إليهم بمقاليد الأمور. وكان من بينهم ابن حجة الحموي، فاتخذه كاتباً من كتاب إنشائه.