للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الجمهور]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وقال صاحب سر (م) باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة ١٩٢٢ أن أُراقبَ الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن ومبادرة لما يُتوقع؛ فكنت كالمرصد المهيَّأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل.

وانتهى إلينا يوماً أن راجفة من هذه الزلازل سترجُفُ بفلان من أهل الرأي الحر الذي يستقلُّ ولا يُتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرِّح ولا يجَمْجمُ، وأن قوماً ثوَّروا عليه الغبارَ الأدميَّ من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحيَّنون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم.

أما فلان هذا فرجلٌ سياسي عنيد أضاع الحقَّ كلَّه لأنه لا يرضى بنصف الحق. . . وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم بما يتكلم؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب لا يموت لأنه غير باطل، ولا يحيا لأنه لا ينتصر. وقد كان رجلاً كالمصباح الوهَّاج فألقوا عليه الغطاء فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحرُّ الصريح كالنبي المكذَّب يُردُّ عليه صدقُه لا لأنه غير صادق ولكن لأنه غير مستطاع أو غير ملائم.

ومن آفاتنا نحن الشرقيين أننا نستمرئُ العداوة وننقاد لأسبابها ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم، كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فردُّ الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا - لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد ومن توثُّب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثَّلبُ والطعنُ والتجريح، وهو الجفوة والخصومةُ واللَّدَد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شرّ وفسادٌ وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والردُّ على عظيم منا كأنه يردُّ على منزلته في الناس لا على منزلته في الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبيرٌ بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب المِلك من مالكه وطرده منه. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>