ومن ثمَّ كان الدفاع بالمكابرة أصلاً من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجةً للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلاً للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كلُّ إنسانٍ نفسه إمبراطوراً على الحق. . . فلا جرَمَ لا تردُّ كلمةٌ على كلمة إلا بحرب.
قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا فجمع رؤوسَ المؤتمِرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلّبهم تقليبَه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتَها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسداً إذا لم يكن الجمهور صحيحاً، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبتَ تجادلهم وتحتجُّ عليهم بأنهم قبلوها - قالوا: هذا كان أمس. . . فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي. فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلافٌ بخلاف؛ فما الذي جعل لكم حقَّ رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم؟ قالوا: إننا الكثرة. قال الباشا: يا أصدقائي إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنَيَين في تفسير رأيها هي؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد فإنها تستغرقه، بيد أن هذه ليست حالَ عشرة قروش يا أصدقائي. . نعم إن قطعَ الخلاف ضرورة من ضروريات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة. .؟ فذلك جدال محسومٌ من نفسه بلا جدال.
إن أساس انخذالنا نحن الشرقيين في قلوبنا إذ لا نعتبر المعانيَ العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجِد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب.
لستم أحراراً في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكن الرأي الذي يعارضكم رأياً حقاً وتركتم منابذتَه فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلاً فإظهاره باطلاً هو برهان الحق الذي أنتم عليه؛ ولن تجرّدوا أحداً من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدَّعي أنها الحق ثم تدَّعي لنفسها حكمه، فقد كذبتْ مرتين.