إننا إن ذكرنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب في العام الثالث عشر من الرسالة المحمدية، وجب علينا أن نذكر أنها كما كانت فاتحة عهد جديد للدعوة الإسلامية، كانت كذلك مقدمة لقيام أمة عالمية، تألفت من طريق الإعجاز على غير السنن الطبيعة، أمة نموذجية لما يجب أن يكون عليه العالم تحت سلطان الأصول الخلقية، ولآداب النفسية، لا تحت حوافز الحاجات المادية والضرورات المعاشية
إن اجتماع القبائل لأجل أن تقوم من مجموعها أمة، ليس بالأمر الشاذ في تاريخ البشر، وإن كان يستدعي مقتضيات كثيرة، وآماداً طويلة، فإن الحاجات الحيوية، والمطالب المادية كثيراً ما تدعو إليه وتحتمه. فالعوامل التي اضطرت الأفراد إلى الاجتماع على هيئة قبيلة لتأمين حياتهم، وضمان معاشهم، هي نفسها التي تضطر تلك الجماعات الصغيرة إلى التآلف والتضامن لتأليف أمة. وإذا كانت هذه العوامل تضطر بعض الحيوانات لتأليف جماعات منها لتتعاون على تدليل العقبات التي تحول بينها وبين ما هي في حاجة ماسة إليه، فلا محل للتعجب من حدوث ذلك في العالم الإنساني، ولكن العجب كل العجب أن تتألف أمة تحت سلطان أصول خلقية، وآداب نفسية، ومبادئ عالمية، لم تقم عليها أمة من قبل حتى ولا في عهد الرسالات الدينية في مثل هذه البرهة القصيرة التي تألفت فيها الأمة الإسلامية
إن كل العوامل التي عملت لتأليف الأمة الإسلامية، ليست من جنس العوامل التي دفعت لتأليف الجماعات البشرية، فقد جرت السنة الطبيعية في تآلف الجماعات العظيمة، أن تنتدب قبيلة كبيرة تحت قيادة زعيم معترف به، لدعوة القبائل المجاورة تحت حافز قوي من مطلب أو مطالب مسلم بضرورتها لدى الكافة للقيام بتحقيقها، فتحدث أولاً بينها اتفاقات جزئية مع حفظ كل منها لاستقلالها الذاتي، ثم تأخذ هذه الاتفاقات في التطور تحت تأثير الحوادث الاجتماعية، فتسقط موجبات التخالف بين هذه الجماعات الجزئية شيئاً فشيئاً حتى ينتهي الأمر باندماج بعضها في بعض، بعد مرور آماد طويلة.
ولكن الأمة الإسلامية قامت على غير هذه السنة الطبيعية فبدأت بدعوة رجل واحد إلى عقائد ومبادئ غير مسلم بها من الكافة، بل كان قومه وعشيرته الأقربون أشد معاداة لها من