غيرهم، وتبعه أفراد منهم لا يغنون عنه ولا عن أنفسهم شيئاً. ثم اتفق أن تأثر بدعوته أفراد من قبيلتين في مواطن بعيدة عن موطنه، تولوا دعوة ذويهم فقبلها كثيرون منهم. وهنا يجب أن يعلم أن العرب الجاهدين لم يكونوا يأبهون بتمحيص العقائد، ولم يعتادوا أن يقتبسوا شيئاً من غيرهم، بل كانوا يأنفون أن يخضعوا لزعيم من غير قبائلهم، بله أن يعينوه على قومه ويستجلبوا بذلك على أنفسهم عداوة قبيل ليس بينهم وبينه ثأر قديم، ولا سخائم موروثة
فلما هاجر النبي إلى موطن هؤلاء الذين قبلوا الدخول في دينه، احتفلوا به أيما احتفال، وخولوه الزعامة عليهم، وعاهدوه على أن يحموا دعوته وينافحوا عنها بأموالهم وأنفسهم. وانتشر الإسلام في تينك القبيلتين بيثرب وهما بنو الأوس وبنو الخزرج، حتى لم يبق بيت فيهم لم يصبأ أهله إليه
تطور غريب لم يعد له شبيه في عالم الاجتماع البشري: جماعتان كانتا بالأمس على الوثنية تقبلان ديناً ليس بين دينهما وبينه أقل شبه، ومناقض لما نشأنا عليه كل المناقضة. وليس ذلك فحسب، بل يدعو إلى أصول ومبادئ كان يمقتها العرب قاطبة، ولا تتفق وما طبعوا عليه، وأشربوه من العصبية الجاهلية، كمبدأ التوحيد في العقيدة، ومبدأ المساواة بين الأجناس البشرية، ونبذ التفاخر بالآباء، والمباهاة بالمغامرات الحربية، ويصرفها إلى العمل على تطهير القلوب بالمجاهدات النفسية!
هذا تطور عجيب في ذاته، وأعجب منه أن يكون في بيئة كل ما فيها يدعو إلى التعويل على الوسائل المادية، والإخلاد إلى الحياة الأرضية؛ وأدعى للعجب منهما أن يتم ذلك التطور طفرة، وهو لا ينشأ عادة إلا بعد تطورات متوالية، وظروف مواتية
قلنا في مقدمة هذه المقالة أن تأليف هذه الجماعة كان مقدمة لقيام أمة عالمية جعلت نموذجاً لما يجب أن تكون عليه الأمم، بعد أن تبلغ من التطور حداً يسمح لها أن تقوم على مثل ما قامت عليه من الأصول الأدبية، والمبادئ الخلقية. فإذا صح ما يقال من أن الحياة الإنسانية أصبحت في حاجة إلى مقومات اجتماعية غير التي تقوم عليها اليوم، تتفق ومقررات العلم، وتتلاءم وما هدى إليه البشر من الأصول الإنسانية، بحيث تبطل بالقيام عليها الحروب، ويتم بينها التعاون على توفير الخير لجميع الشعوب، فلا سبيل إلى ذلك إلا باستبدالها