نالت الآداب العربية من تشجيع الأمراء في مختلف العهود ما لم تكد تظفر به آداب أمة أخرى؛ ومن الأقوال المتواترة في كتب الأدب العربي وتاريخه أن ذلك التشجيع كان من أهم أسباب ازدهار الأدب، ولكن الحقيقة التي يراها المدقق أن ذلك التشجيع لم يكن له ذلك الأثر الطيب المعزوّ إليه، بل كان له في الأدب العربي أثر وخيم بعيد المدى.
ذلك بأن الأمراء حين شجعوا الشعر وقربوا الشعراء وأغدقوا عليهم لم يقصدوا إلى تشجيع الفن لذاته أو إكرام أصحابه، وإنما كانت لهم غاياتهم الشخصية ومأربهم السياسية المعروفة، فكانوا يريدون من أولئك الشعراء التزكية وإعلاء الصيت ومناضلة أعدائهم والذب عن دعواهم في الملك والسيادة، ولذلك لم يطلبوا عندهم سوى فن واحد من فنون الشعر هو المدح، ولم نعلم عن أمير أجاز شاعراً لنبوغه في الوصف أو النسيب أو قول الحكمة وصرب الأمثال.
فالشعر الذي شجعه الأمراء هو المدح دون غيره، وليس المدح بخير فنون الشعر ولا هو من الشعر على الإطلاق لمنْ طلب في الشعر تعبيراً عن شعور صادق قيم؛ وما كان المدح الذي أفشاه أولئك الأمراء في الشعر العربي إفشاء لا نظير له يحوي شعوراً صحيحاً ولا تفكيراً مستقيماً.
إن أول خصائص الشعر الجيد صدوره عن دافع وجداني داخلي، وهذه صفة كانت تنقص شعر المدح الذي كان لا يصدر إلا عن دافع مادي هو صلة الممدوح، وإن لم يحسَّ الشاعر بحب له ولا إعجاب به، حتى ولو أضمر له البغض والإزدراء. فلا غرو، وقد فقد شعر المديح هذه الصفة الأساسية أن خالطه الكذب وأسرع إليه التهويل والمبالغة والتهافت والإسفاف والإحالة، وأغرى معالجيه بسد نقص الشعور بالتلاعب باللفظ واصطناع محسناته، وأولعهم بالسرقة من متقدميهم وتعَاوُر معانيهم توليداً وتخريجاً وابتذالاً، حتى لم تَعُدْ غاية قرض الشعر التعبير عن الشعور الصحيح - لأنه لم يكن هناك في الغالب شعور - بل عادت الغاية إبداء البراعة ومعارضة المتقدمين واستدرار أكبر الصلات.