حدثتني من لا أتهمها في الحديث أن زوجها بنى بها قبل الثورة العربية بقليل، وكان صغيراً وقد ترك له والده ضيعة واسعة، فلما كانت الثورة العرابية وهاجر الإسكندريون إلى البلاد التي يضنون فيها الأمن نزح كثير منهم إلى بلده وكان منهم فقراء ومعوزون فرأى حاجاتهم، ففرق فيهم البر الذي أغلته ضيعته حباً ودقيقاً وخبزاً، فدخلت على جارتي وذكرن صغر زوجي وما يستلزمه الصغر من السفه، وأنه فرق غلة العام على المهاجرين فاعذليه في ذلك، فإن لم يصخ فاشكيه إلى أبيك. قالت: فعذلته، فقال: ويك لا أسمع قول العاذلين
فشوكته إلى أبي فقال: يا بنيتي قدري أنك المهاجرة فهل كنت تودين أن يمنع ذوو المعروف عنك معروفهم. أو كنت تودين أن يعطوك الفضل من ما لهم وتحدقين على من لم يعط. يا بنيتي إن هؤلاء المهاجرين من كان آمناً في سربه، معافى في بدنه، واجداً قوت عامه، فكفى عن عذله، فلم يفعل إلا الصواب. هذا رأي أبي فما رأيك أنت؟، فقلت هبي رفقة فقد ضلوا في صحراء موحشة وقد فقدوا ماءهم إلا واحداً قد بقى معه فضل من مائه، أيجوز له أن يمنعه رفقته حتى يهلكوا عطشاً، أم يلزمه أن يعطيهم من فضل مائه ليستعينوا به على قطع الطريق حتى يصلوا إلى العمران؟ قالت: يلزمه ألا يمنعهم ماءه لئلا يهلكوا عطشاً، قلت وهذا ما فعله زوجك. وقد دار الدهر دورته وجاءت هذه الحرب وأضطر بعض أهل المدن إلى الهجرة إلى الريف، وإن منهم صناعاً تركوا صناعتهم، وعمالاً تركوا عملهم؛ فهل من أغنياء الأمة من يكونون لهم كما كان ذلك المحسن العظيم؟ قد كان في الإمكان أن نقول للحكومة افعلي، ولكننا اغتنمناها فرصة ليربى فينا خلق المحبة والإيثار، والكرم والإعطاء وروح التناصر والتعاون
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع ... صديقك يمشي خلفها غير راكبِ
أنخْها فأردفْه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان للعقاب فعاقب