للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من الأدب الرمزي]

في الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

احتفلت الطبيعة لعيني العاشقة، فحشَدَتْ أطفالها جميعاً، ووقفت تعاجبني بهم، وأبرزت نهودها من جبالها، وأرسلت شعرها من حُورها، ورقرقت خدها بماء النبع، وموَّهته بدم الشفق، وكللت جبينها بالزهر المضفور، ومَشقت قدَّها في رقص السرو، وخرجت عليَّ بمليء الضحى السابغٍ ضياءً وملء الليل الساجي نجوما، ومشت تتهادى على الحصى الملوّن، وتخطو على الجُدَد البيض والحمر، وأخذت تغازلني بالنسيم الذي استروحتُ فيه بردَ قلبها لحر قلبي. . . فسجدت أمامها بجسدي كله على الشوك والحصى في حِضن صخرة مشرفة على هوة. . . .! وقلت لها: هل أنا إلا منك يا ذات الشباب المتجدد أبداً؟ يا أيتها الأم الوَلود الأكول الضاحكة المعولة. . . يا ذات البطن البَرَاح الذي مما فيه البحرُ والدَّيمومُ بعجائبهما وولائدهما. . . يا ذات الأثداء التي تَدِرُّ وتمتص.!

سأرتد إليك وأجرد نفسي من شعور الانفصال عنك، وأقف في صفوف أطفالك صورةً من صور الجمال أو القبح كما تشائين. . وسأطلق أنفاسي مَوْجةً في هَبَوات الريح، وأصواتي نغمةً في النشيد الكبير الذي يملأ أسماع السموات والأرض. . . وخَطَفاتِ ذهني مع ومَضاتِ البروق. وسأضع جسدي لَبنةً في البناء العام كالجبل والحصى الموضوع تحت السقف المرفوع. . .

إني أخ كبير لأبنائك الذين تلدينهم مع ساعات الصباح والمساء، أتلقفهم بعيني هاتين اللتين فيهما الإعجاب والرحمة للجمال والقبح! عينيَّ اللتين وراءهما قلب خلقه الله أوسع منك وأعجب وأكثر ولادة. . . إنه بلد كل أبنائك ولادةً ثانية بمخاضها ورضاعها وفِصالها! ثم لا يرسلهم وينساهم فانين ضائعين كما تفعلين. . بل يبقيهم كلماتٍ تامةً دائمة مسجلة في اللوح المحفوظ. . .

فاسأليهم. . اسألي الورد والشوك، والحمل والذئب، والورقاء والرقطاء، والغراب والعصفور، والنحلة والجُعَل، وسائرَ ما تلدين من الأعلى والأدنى: ألست أوالي عليهم نظراتي وفكرتي؟ واسألي الشمس والنجوم: ألا أسافر معها سفراً غير زَمنيٍّ فلا أيام فيه ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>