ومما يدل على أن أبا العتاهية كان يحمل نفسه من أسباب اللهو ما ليس من سجيتها في الزهد لأغراض له في ذلك - ما رواه صاحب الأغاني قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار. قال حدثني أبن أبي الدنيا قال حدثني الحسين بن عبد ربه قال حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال حدثني أبو الشمقمق أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المحنثين، فقلت له: أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك؟ فقال له: أريد أن أتعلم كيادهم، وأتحفظ كلامهم
وهو في أخذه بما كان يأمره به الرشيد منه ليتقي به حبسه وسجنه إنما كان يأخذ بالتقية التي يأخذ بها الشيعة، وقد كان على ما سيأتي من رجالهم، فجرى بذلك مع الرشيد كما جرى به مع الهادي والمهدي، وكان إذا خرج من سجنه، وجرى على ما يهواه منه، مضى معه كأن لم يكن هناك شيء يخيفه منه في دخيلة نفسه ومدحه بشعره أحسن مدح، وأخذ عليه منه جزيل صلاته وجوائزه، حتى إذا غلبته نفسه نبا عليه، وأخذ في زهده ونسكه، وأخذ الرشيد في الغضب عليه وسجنه وحبسه، وأبو العتاهية رابح في الحالتن، قاض لنفسه غرضها من مال العباسيين، ولمذهبه السياسي الذي سنشرحه غرضه من ذم دنياهم، والنعي على ما في دولتهم من فساد ديني وسياسي واجتماعي
وقد أخبر أبن أبي العتاهية أن الرشيد لما أطلق أباه من الحبس لزم بيته وقطع الناس، فذكره الرشيد فعرف خبره، فقال: قولوا له صرت زير نساء، وحلْس بيت! فكتب إليه أبو العتاهية:
بَرِمتُ بالناس وأخلاقهم ... فصرت أستأنس بالوْحدَه
ما أكثر الناس لعمري وما ... أقلهم في منتهى العدَّهِ
ثم قال: لا ينبغي أن يمضي شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له، فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها وهي: