للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ذكريات العراق]

تأمل ساعة

بقلم أحمد حسن الزيات

في الشرفة الوسيعة في فندق (كارلتون) جلست أطالع في صفحة دجلة ما خطته يد القرون. وكانت شمس الأصيل تنفض تبرها على أمواج النهر وسطوح الكرخ وحواشي الأفق، والطبيعة الأنيفة تنعم بالصفاء والبهاء والدفء، بعد ما أجهدها رعد الأمس وبرقه، وأغصها وابل الغمام وودقه، فالسماء مصرية الأديم، والجو عبهري النسيم، والأفق الغربي مزدان بقزعات من السحاب الأبيض الرقيق، والماء قد استحال لجينه نضاراً من طول ما حمل إليه السيل من كنوز الجبل.

أخذت أصوب النظر وأصعده في النهر والجسر والشاطئ. فأرى أنماطاً من الناس، وأخلاطاً من الأجناس، وصوراً من الأشياء، تنكرها العين ويعرفها القلب، لأنها شرقية، ولأنها عربية، ولأنها مظلومة!. . . .

ذكرتني هذه المناظر مناظر غابت في سويداء القلب ولفائفه: ذكرني تقابل الرصافة والكرخ على دجلة، تقابل القاهرة والجيزة على النيل الأعلى، والمنصورة وطلخا على النيل الأسفل!.

وفي هذه الأماكن الحبيبة مدرج طفولتي وشبابي، وملتقى أحبتي وصحابي، فهاجت شجوني وسالت شؤوني. فوضعت جبهتي المضطرمة على سياج الشرفة البارد، وعدت بالذاكرة وشيكاً إلى بغداد، ثم انطويت على نفسي، وأخذت أتفكر وأتذكر وأعمه في غيابة الماضي، حتى انقطع ما بيني وبين الحاضر، وانمحى من حوالي العالم بأسره

وحينئذ انبعث من جانب الكرخ صوت شاد يرجع بالنغم العربي الشجي، فخيل إلي أنني أرى دجلة (الأمين). وجسر (ابن الجهم)، وكرخ المجان والخلعاء من أهل بغداد المترفة؛ ووقع في سمعي أن هذا الشادي يقول:

سقى الله الكرخ من مُتَنزَّهٍ ... إلى قصر وضاح فِبرْكَةِ زلزل

مساحب أذيال القيان ومسرح ال ... حسان ومثوى كل خرق معذل

وصور لي أنني أسمع غناء الملاحين في الزلازل، وأبصر (الدلفين) و (العقاب) يمخران

<<  <  ج:
ص:  >  >>